إريتريا، تلك الدولة الواقعة في شرق إفريقيا على ساحل البحر الأحمر، ليست مجرد نقطة استراتيجية على خريطة القرن الإفريقي، بل هي بوتقة دينية فريدة تحتضن تنوعًا روحيًا يتداخل فيه التاريخ مع الثقافة، والسياسة مع العقيدة. هذا البلد الذي نال استقلاله عن إثيوبيا في عام 1993، يُعد اليوم أحد أكثر الدول تنوعًا دينيًا في القارة، إلا أن هذا التنوع يُقابَل بقيود سياسية شديدة تُلقي بظلالها على حرية المعتقد. يستعرض هذا المقال مشهد الأديان في إريتريا، وتوزيعها، وتاريخها، والسياسات التي تؤطرها، ويحلل واقع الحريات الدينية فيها حتى تاريخ اليوم.
أقسام المقال
- توازن ديني هش بين الإسلام والمسيحية
- الكنيسة الأرثوذكسية الإريترية: سلطة دينية وسياسية
- الكنائس الأخرى: الكاثوليك واللوثريون على هامش المشهد
- الإسلام في إريتريا: بين الاعتراف والرقابة
- الديانات غير المعترف بها: إيمان مُلاحق
- الديانات التقليدية والجذور الأفريقية
- حرية الدين في الدستور والممارسة
- تأثير القمع الديني على المجتمع
- خاتمة: مستقبل الأديان في ظل الانغلاق
توازن ديني هش بين الإسلام والمسيحية
تُظهر الإحصائيات الحديثة أن المجتمع الإريتري مقسم تقريبًا بالتساوي بين المسلمين والمسيحيين، بنسبة تقارب 50% لكل منهما، مع اختلافات طفيفة من مصدر لآخر. وينحدر المسلمون غالبًا من الجماعات العرقية التيغري، والساهو، والعفر، بينما ينتمي معظم المسيحيين إلى التيغرينيا. يتمركز المسلمون في المناطق الساحلية الشرقية والجنوبية الغربية، أما المسيحيون فينتشرون بكثافة في الهضاب الوسطى. رغم هذا التوازن الديموغرافي، فإن الهيمنة السياسية تُرجح كفة المسيحيين الأرثوذكس الذين يرتبطون بعلاقات وثيقة بالحكومة، في حين تُقيَّد أنشطة المجموعات الأخرى.
الكنيسة الأرثوذكسية الإريترية: سلطة دينية وسياسية
تُعد الكنيسة الأرثوذكسية التوحيدية الإريترية واحدة من أقدم المؤسسات الدينية في البلاد، حيث نالت استقلالها عن الكنيسة الإثيوبية عام 1993. تحظى هذه الكنيسة بدعم مباشر من الحكومة، وتمثل الوجه الرسمي للمسيحية في البلاد. يُشرف النظام الحاكم على تعيين البطاركة والأساقفة، وقد تدخل في شؤون الكنيسة بشكل مباشر، مثل عزل البطريرك أنطونيوس في عام 2006 ووضعه قيد الإقامة الجبرية بسبب مواقفه المستقلة. هذا التداخل بين الدولة والدين جعل من الكنيسة أداة للسلطة أكثر من كونها مؤسسة روحية مستقلة.
الكنائس الأخرى: الكاثوليك واللوثريون على هامش المشهد
رغم الاعتراف الرسمي بالكنيسة الكاثوليكية والكنيسة الإنجيلية اللوثرية، إلا أن تأثيرهما محدود مقارنة بالكنيسة الأرثوذكسية. تُمارس هذه الكنائس أنشطتها تحت رقابة حكومية صارمة، ويُفرض على رعاتها تقديم تقارير دورية للسلطات حول أنشطتهم وأعضائهم. كما تتعرض المدارس والمراكز التابعة لهم للمضايقات والتقليصات التنظيمية، ما أدى إلى تراجع دورهم التربوي والاجتماعي.
الإسلام في إريتريا: بين الاعتراف والرقابة
رغم أن الإسلام معترف به رسميًا، إلا أن حرية المسلمين في إدارة شؤونهم الدينية محدودة. تُشرف الحكومة على تعيين مفتي البلاد، وتمنع تكوين هيئات مستقلة أو جمعيات خيرية إسلامية. كما تُفرض قيود على خطب الجمعة وتتم مراقبة الخطب للتأكد من خلوها من أي انتقاد للسلطة. وقد تم إغلاق عدد من المدارس الإسلامية والمساجد المستقلة، واعتقال شيوخ دين بتهم تتعلق بـ”التطرف”، رغم عدم وجود أدلة واضحة في معظم الحالات.
الديانات غير المعترف بها: إيمان مُلاحق
منذ عام 2002، اعترفت الدولة فقط بأربع طوائف: الأرثوذكسية، الكاثوليكية، اللوثرية، والإسلام السني. أما باقي الجماعات، مثل شهود يهوه، الإنجيليين الخمسينيين، والمعمدانيين، فلم تُمنح أي شرعية قانونية. أدى ذلك إلى موجة من القمع شملت اعتقالات جماعية، ومداهمات لمنازل تقام فيها الصلوات، وتعذيب المحتجزين وإجبارهم على التخلي عن عقيدتهم. وتفيد تقارير حقوقية أن بعض المعتقلين ظلوا في السجون لأكثر من 15 عامًا دون محاكمة.
الديانات التقليدية والجذور الأفريقية
إلى جانب الديانتين الرئيسيتين، تحتفظ بعض المجموعات العرقية مثل النارا والبلين بمعتقدات أفريقية تقليدية تعتمد على تقديس الأرواح والطقوس الزراعية. هذه الديانات تُمارس غالبًا بعيدًا عن الأضواء وتُعد جزءًا من التراث الثقافي لتلك الجماعات. لكنها لا تحظى بأي اعتراف رسمي، وغالبًا ما تُدرج ضمن خانة “الديانات غير المسجلة”، ما يُعرض أتباعها للتهميش الديني والاجتماعي.
حرية الدين في الدستور والممارسة
رغم أن دستور إريتريا الصادر عام 1997 ينص على حرية الدين، إلا أن هذا الدستور لم يُفعّل رسميًا، مما يجعل الحماية القانونية لتلك الحريات معدومة عمليًا. القوانين المطبقة حالياً تُعطي صلاحيات واسعة للأجهزة الأمنية لتقييد أي نشاط ديني يُعتبر “تهديدًا للأمن القومي”، وهو توصيف فضفاض يُستخدم لتبرير القمع. وقد صنفت عدة تقارير دولية إريتريا ضمن أسوأ الدول في العالم من حيث حرية الدين والمعتقد.
تأثير القمع الديني على المجتمع
أدى القمع الديني المستمر إلى تفكك النسيج الاجتماعي، حيث يعيش كثير من المواطنين في خوف دائم من التعبير عن معتقداتهم. وقد اضطر الآلاف للهجرة بسبب الانتهاكات الدينية، ليصبح اللجوء لأسباب دينية ظاهرة ملموسة بين الإريتريين. كما أثّر غياب التعددية الدينية على التعايش السلمي، وزاد من الشكوك بين أتباع الطوائف المختلفة، خاصة مع استخدام الدين أحيانًا كأداة للتمييز السياسي.
خاتمة: مستقبل الأديان في ظل الانغلاق
في ظل السيطرة الصارمة التي تفرضها الحكومة الإريترية على المجال الديني، يبقى مستقبل الأديان في البلاد غامضًا. التعدد الديني الذي كان يومًا مصدرًا للقوة الوطنية أصبح الآن عُرضة للتآكل بسبب سياسات الإقصاء والقمع. ويبقى الأمل معقودًا على إصلاحات سياسية حقيقية تفتح المجال لحرية المعتقد وتُعيد للديانات المختلفة دورها الطبيعي في بناء المجتمع. حتى ذلك الحين، سيظل الإريتريون يمارسون إيمانهم بين جدران الصمت، في انتظار فجر جديد من الحرية.