الأديان في العراق

العراق ليس فقط مهداً للحضارات القديمة بل أيضًا أرضًا احتضنت عبر قرون طويلة طيفًا واسعًا من الأديان والطوائف والمعتقدات. فالتنوع الديني الذي يميز هذا البلد ليس وليد العصر الحديث، بل هو نتيجة تراكمات تاريخية وثقافية ودينية تعود إلى آلاف السنين، منذ حضارات سومر وأكد وبابل وحتى الحقبة الإسلامية وما تلاها. واليوم، رغم ما مر به العراق من صراعات واضطرابات، لا يزال هذا التنوع قائمًا، ويعكس فسيفساء مذهلة للهوية العراقية.

التوزيع الديني في العراق

بحسب التعداد السكاني الرسمي لعام 2025، بلغ عدد سكان العراق نحو 47,020,774 نسمة، ليحتل المرتبة الرابعة والثلاثين عالميًا من حيث عدد السكان. يشكل المسلمون ما بين 95% إلى 98% من إجمالي السكان، بينما تتوزع النسبة المتبقية على المسيحيين، والإيزيديين، والصابئة المندائيين، والبهائيين، وطوائف أخرى صغيرة. هذا التنوع في الانتماء الديني ينعكس بشكل واضح على الخارطة الجغرافية والاجتماعية والسياسية للبلاد.

المسلمون في العراق

يشكل المسلمون الغالبية الساحقة في العراق، وينقسمون بشكل رئيسي إلى طائفتين: الشيعة والسنة. الشيعة يمثلون ما يقارب 65% من المسلمين في العراق ويتمركزون في محافظات الجنوب والوسط، مثل النجف وكربلاء والبصرة، ولهم مرجعيات دينية بارزة ومؤسسات فقهية كبيرة، أبرزها الحوزة العلمية في النجف. السنة من جهتهم يشكلون حوالي 32% من المسلمين، ويتمركزون في المناطق الغربية والشمالية مثل الأنبار وصلاح الدين ونينوى، وينتمون إلى المذهب الحنفي بشكل رئيسي. رغم أن العراق شهد في السنوات الماضية توترات طائفية، إلا أن التعايش بين الطائفتين لا يزال قائمًا، وهناك جهود حثيثة لإعادة بناء الثقة بين المكونات.

المسيحيون في العراق

تعد المسيحية من أقدم الديانات في العراق، ويعود وجودها إلى القرن الأول الميلادي. كانت الكنائس العراقية، وخاصة الكلدانية والآشورية، منارة للفكر والتعليم طوال قرون. اليوم، يشكل المسيحيون أقل من 1% من السكان بعد أن كانوا يشكلون أكثر من 6% في منتصف القرن العشرين. يتوزعون بين الطوائف الكلدانية، السريانية، الآشورية، والأرمنية. يتركز وجودهم في سهل نينوى، وأربيل، ودهوك، وأحياء معينة من بغداد. وقد أدى العنف الطائفي والتهجير القسري إلى انخفاض عددهم بشكل كبير، ومع ذلك، لا تزال الكنيسة العراقية تقوم بدور ثقافي واجتماعي مهم في البلاد.

الإيزيديون في العراق

الإيزيديون هم طائفة دينية فريدة تعود جذورها إلى الديانة الزرادشتية، ويُعتقد أنهم احتفظوا بعقائد وممارسات روحية قديمة. يتمركز الإيزيديون بشكل رئيسي في قضاء سنجار وجبل سنجار في نينوى، إضافة إلى تواجدهم في مناطق من دهوك. تعرض هذا المكون لواحدة من أسوأ الكوارث في العصر الحديث عندما اجتاح تنظيم داعش مناطقهم عام 2014، ما أدى إلى قتل الآلاف وسبي النساء وتهجير عشرات الآلاف. ومنذ ذلك الحين، يعيش الإيزيديون في حالة من التهجير، رغم عودة البعض إلى مناطقهم بدعم من منظمات محلية ودولية.

الصابئة المندائيون في العراق

الصابئة المندائيون هم من أقدم الأقليات الدينية في العراق، ويعتقد أتباعهم أن نبيهم هو يحيى (يوحنا المعمدان). يمارسون طقوسهم الدينية حول الأنهار، وخاصة نهر دجلة، لما للماء الجاري من أهمية مقدسة في عقيدتهم. يتواجدون أساسًا في ميسان والبصرة وبغداد. وعلى الرغم من أن عددهم لا يتجاوز عدة آلاف، إلا أنهم يحتفظون بنظام ديني منظم يشمل رجال دين مراتبهم تبدأ بـ “الترميدة” وتنتهي بـ “الكنزورا”. بسبب الاضطرابات الأمنية والتمييز المجتمعي، اضطر الكثير من المندائيين إلى الهجرة خارج البلاد خلال العقدين الماضيين.

الأقليات الدينية الأخرى في العراق

إلى جانب الديانات الكبرى، توجد في العراق طوائف أقل شهرة ولكنها ذات حضور تاريخي، مثل البهائيين الذين بدأ وجودهم في العراق منذ القرن التاسع عشر، ورغم أنهم يواجهون تضييقًا قانونيًا، إلا أنهم ما زالوا يتمسكون بهويتهم الدينية في السر غالبًا. كما توجد طائفة الكاكائية في كركوك والمناطق القريبة من الحدود مع إيران، والتي لها معتقداتها الخاصة الممزوجة بعناصر من الإسلام والزرادشتية. أما الزرادشتيون فقد شهدوا مؤخرًا بعض حالات الإحياء لطقوسهم، خاصة في كردستان العراق، ضمن أجواء الحرية الدينية النسبية هناك.

التحديات التي تواجه التنوع الديني في العراق

رغم أن الدستور العراقي يضمن حرية المعتقد، فإن الواقع الميداني يشير إلى تحديات كبيرة تواجه الأقليات الدينية، منها التمييز في الوظائف، وتعرضهم لأعمال عنف، وضعف التمثيل السياسي، وهشاشة البنية الأمنية في مناطقهم. كما أن الهجرة الجماعية التي طالت أتباع العديد من الأقليات أدت إلى تآكل هذا التنوع. ويمثل غياب برامج تعليمية تُدرّس ثقافة التعدد والتسامح عاملاً إضافيًا في تأزيم الوضع.

الجهود المبذولة لحماية التنوع الديني في العراق

هناك محاولات جادة من قبل منظمات المجتمع المدني، وبعض المؤسسات الحكومية والدينية، لتعزيز ثقافة التسامح والتنوع. شُكلت هيئات خاصة بشؤون الأديان في مجلس النواب، وأطلقت مبادرات تعليمية ودينية تهدف إلى ترسيخ قيم العيش المشترك. في إقليم كردستان، توجد قوانين أكثر مرونة تسمح بحرية ممارسة الطقوس الدينية للأقليات. كما أن زيارة البابا فرنسيس التاريخية إلى العراق عام 2021 ساهمت في إعادة تسليط الضوء على معاناة الأقليات، وتعزيز الوعي الدولي بقضيتهم.

خاتمة

يشكل التنوع الديني في العراق أحد أهم أوجه ثرائه الثقافي والتاريخي. ورغم ما واجهته الأقليات من تحديات ومآسٍ، لا تزال هذه الفسيفساء الدينية جزءًا أصيلاً من الهوية العراقية. ويتطلب الحفاظ عليها إرادة سياسية، ومجتمعًا مدنيًا فاعلًا، وتعليمًا يُرسّخ القيم المشتركة، حتى يبقى العراق بلد الأديان المتعددة لا مجرد وطن للأغلبية.