زيمبابوي ليست مجرد دولة تقع في قلب إفريقيا الجنوبية، بل هي مساحة روحية تتلاقى فيها الأديان والثقافات والتقاليد في تناغم مثير للاهتمام. فعلى الرغم من أن المسيحية تهيمن على المشهد الديني، إلا أن المعتقدات التقليدية تواصل لعب دور جوهري في الحياة اليومية، بينما تزداد الأقليات الدينية الأخرى بمرور الزمن. هذا التداخل بين القديم والحديث، وبين المحلي والمستورَد، يجعل من الأديان في زيمبابوي نافذة لفهم المجتمع بكل عمقه وتعقيداته.
أقسام المقال
المسيحية في زيمبابوي: الدين السائد
المسيحية تُعد العمود الفقري للحياة الدينية في زيمبابوي، وهي الدين الذي يعتنقه أكثر من 84% من السكان. وقد دخلت المسيحية البلاد خلال الحقبة الاستعمارية، خاصة عبر المبشرين الأوروبيين الذين نشروا التعليم والصحة بالتوازي مع المعتقدات الدينية. ومع مرور الوقت، تفرعت المسيحية في زيمبابوي إلى عدة طوائف، أبرزها البروتستانتية، الكاثوليكية، والكنائس الرسولية المحلية.
تُسيطر الكنائس البروتستانتية على النسبة الأكبر، ويبرز من بينها السبتيون والميثوديون، الذين أسسوا مدارس ومستشفيات شكلت نواة الخدمات الاجتماعية. أما الكاثوليك، فقد أنشؤوا شبكة متطورة من المؤسسات التعليمية والخيرية، وما زالوا يحتفظون بتأثير ملموس في المناطق الحضرية.
الكنائس الرسولية والعنصرة تختلف بطبيعتها، إذ تمزج العقيدة المسيحية مع الموروثات الإفريقية، مثل الطقوس الجماعية، وشفاء الأمراض بالأدعية، وادعاء البعض النبوة. وتُميز هذه الكنائس ملابسها البيضاء وصلواتها في الساحات المفتوحة، وهي تتوسع بسرعة في الريف والمدن الفقيرة.
المعتقدات التقليدية في زيمبابوي: الجذور الروحية العميقة
رغم التحول الكبير نحو المسيحية، لم تختفِ المعتقدات التقليدية، بل تكيّفت وتعايشت معها. تُركز هذه الديانات على احترام الأسلاف، والإيمان بوجود أرواح تراقب وتوجه الأحياء. وتتم الطقوس عبر “النغانغا”، وهم وسطاء روحيون يقومون بالعلاج بالأعشاب والطقوس، ويُعتبرون مراجع اجتماعية مهمة.
لا تزال مواقع مثل تلال ماتوبو تعتبر مقدسة، حيث تُنظَّم طقوس التواصل مع الأرواح، واستدعاء المطر، أو طلب الحماية من الكوارث. ويتم استخدام أدوات موسيقية مثل “المبيرا” في هذه الطقوس، والتي تُرافقها رقصات وأناشيد تعبّر عن الامتنان والاتصال بالعالم الآخر.
اللافت أن كثيرًا من الزيمبابويين يدمجون بين الدينين، فيمارسون الطقوس المسيحية نهارًا، ويستشيرون النغانغا سرًا عند المرض أو المشكلات الأسرية، ما يُبرز استمرار تأثير الروحانية الإفريقية في اللاوعي الجماعي.
الإسلام في زيمبابوي: أقلية متنامية
الإسلام في زيمبابوي لا يزال يُشكل أقلية، لكنه يشهد نموًا ملحوظًا، خصوصًا بين فئات الشباب المتعلمين. ويقدَّر عدد المسلمين بنحو 0.7% من السكان، وتتمركز الجالية المسلمة في المدن الكبرى، حيث توجد المساجد والمدارس الإسلامية.
ينحدر المسلمون من أصول آسيوية (باكستان والهند)، بالإضافة إلى مهاجرين من ملاوي وتنزانيا، وبعض الزيمبابويين الأصليين الذين اعتنقوا الإسلام. ويُلاحظ أن هناك جهودًا مكثفة لتعريف المجتمع بالإسلام من خلال المحاضرات والمطبوعات والأنشطة الثقافية التي تنظمها الجمعيات الإسلامية.
رغم صغر حجم الجالية، إلا أنها تساهم في الأنشطة الخيرية والتعليمية، وتُشارك في الاحتفالات الوطنية، مما يعكس روح الانفتاح والتعايش في البلاد.
الأديان الأخرى واللادينية في زيمبابوي
توجد في زيمبابوي أيضًا ديانات أقل شهرة، مثل الهندوسية والبهائية واليهودية، وغالبًا ما تكون متركزة داخل جاليات صغيرة من المهاجرين أو الأحفاد. كما أن هناك ازديادًا في عدد الزيمبابويين الذين يُعرفون أنفسهم بأنهم لادينيون أو ملحدون، ويُقدَّر عددهم بنحو 10%.
هذا الاتجاه نحو اللادينية قد يرتبط بتغيرات اجتماعية، وانتشار التعليم العلماني، وتأثير وسائل الإعلام والإنترنت، التي جعلت الأفراد أكثر استقلالًا في تكوين معتقداتهم. إلا أن هذا لا يعني انحسار تأثير الدين، فغالبية السكان لا تزال تربط سلوكها وقيمها بالحس الديني، حتى وإن لم تلتزم بممارساته الشعائرية اليومية.
التعايش الديني في زيمبابوي: نموذج للتسامح
زيمبابوي تُعد من الدول الإفريقية التي تحتفظ بقدر عالٍ من التسامح الديني. إذ نادرًا ما تسجل فيها حوادث توتر طائفي أو عنف ديني، وتُشجع الحكومة على حرية الاعتقاد، ويُكفل الدستور ذلك بشكل صريح. تُقام فعاليات حوار بين الأديان برعاية منظمات مدنية ودينية، ويُشارك فيها ممثلون عن كافة الطوائف.
كما يُلاحظ أن العديد من الأسر تضم أفرادًا من أديان مختلفة دون أن يؤثر ذلك على تماسك العائلة، مما يُدلل على تقبل المجتمع للتنوع الديني. ومن الشائع أن يُشارك المسلمون والمسيحيون واليهود في مناسبات بعضهم البعض، بما يُعزز التفاهم والتلاحم الاجتماعي.
الأديان والتعليم في زيمبابوي
تلعب المؤسسات الدينية دورًا كبيرًا في قطاع التعليم. فالكنائس المسيحية تمتلك العديد من المدارس التي تتمتع بسمعة قوية، وتُركز على تعليم القيم جنبًا إلى جنب مع المناهج الأكاديمية. كما أن المدارس الإسلامية تُسهم في نشر اللغة العربية والثقافة الإسلامية، إلى جانب تقديم خدمات تعليمية بأسعار رمزية.
في المقابل، تعاني بعض الطوائف الصغيرة من ضعف التمويل، مما يحد من قدرتها على توفير تعليم ديني لأتباعها. ورغم ذلك، تعمل الدولة على مراقبة المناهج لضمان ألا يُستخدم التعليم كأداة للتحريض أو التفرقة.
خاتمة
التنوع الديني في زيمبابوي ليس مجرد ظاهرة إحصائية، بل هو انعكاس حي لهوية مركبة ومتعددة الطبقات. تتعايش في هذا البلد المسيحية بطوائفها، والمعتقدات التقليدية بجذورها العميقة، والإسلام بتسامحه، والأديان الأخرى بتنوعها، في مشهد ديني غني وهادئ نسبيًا. وبينما يتغير العالم من حولها، تظل زيمبابوي تقدم مثالًا على كيف يمكن للدين أن يكون عاملًا للوحدة لا للفرقة، ومصدرًا للهوية لا للانقسام.