الدين الرسمي في تونس

تُعد تونس واحدة من أكثر الدول العربية تميزًا في تجربتها الدستورية والسياسية، لا سيما في ما يتعلق بعلاقتها بالدين الإسلامي، بوصفه المكوّن الثقافي والديني الأبرز في هوية الشعب التونسي. ورغم أن الإسلام كان وما يزال يلعب دورًا مركزيًا في الحياة العامة، فإن البلاد شهدت منذ الثورة التونسية عام 2011 تغييرات جذرية في رؤية الدولة للدين، وتوجهها نحو تبني مفهوم الدولة المدنية التي تضمن حرية المعتقد وتفصل بين مؤسسات الحكم والسلطة الدينية. في هذا المقال، نسلط الضوء على تطور مفهوم الدين الرسمي في تونس، انطلاقًا من النصوص الدستورية المتعاقبة، مرورًا بالإصلاحات الحديثة، ووصولًا إلى التحديات التي تفرضها التعددية الدينية والواقع السياسي الحالي.

الإسلام في الدستور التونسي: من الثبات إلى التأويل

ظل الإسلام منذ الاستقلال في طليعة الثوابت الدستورية التونسية. فقد نص دستور 1959 بوضوح على أن الإسلام هو دين الدولة، وهو ما عكس توافقًا عامًا في المجتمع آنذاك، حيث لم تكن هناك معارضة كبيرة لهذا التوجه. واستمر هذا النص كما هو في دستور 2014، الذي أتى بعد الثورة واحتوى على تأكيد مزدوج: الإسلام دين الدولة من جهة، وحرية الضمير والمعتقد من جهة أخرى، في محاولة للتوفيق بين الهوية الإسلامية وضرورات التعددية السياسية والدينية.

دستور 2022: تغيير الصياغة ومقاصد الإسلام

مع انتخاب الرئيس قيس سعيّد، دخلت تونس مرحلة دستورية جديدة تجسدت في استفتاء 25 يوليو 2022. وقد نص الدستور الجديد على أن “تونس جزء من الأمة الإسلامية”، دون أن يُعلن الإسلام كدين رسمي للدولة بشكل مباشر. بدلًا من ذلك، رُبطت الدولة بتحقيق مقاصد الإسلام، في صيغة أكثر مرونة وإيحاءً، تشير إلى البُعد القيمي والأخلاقي للدين في التشريع، لا إلى سلطة دينية تنفيذية. هذا التغيير فسّره البعض على أنه تراجع عن الطابع الديني التقليدي للدستور، بينما رآه آخرون تطورًا يُبقي على هوية البلاد الإسلامية دون فرض أطر دينية على الدولة المدنية.

دور الدولة في الشؤون الدينية

رغم الحديث عن الحياد الديني، لا تزال الدولة التونسية تلعب دورًا محوريًا في إدارة الشأن الديني. فوزارة الشؤون الدينية تُشرف على تنظيم المساجد، وتعيين الأئمة، والإشراف على الخطاب الديني. كما تتحكم الدولة في برامج التعليم الديني وتضمن خضوعها لمنظومة الدولة، وذلك من أجل مكافحة التطرف الديني والحد من التأثيرات الأيديولوجية الخارجية. هذا الدور وإن كان يحمل بعدًا رقابيًا، إلا أنه يندرج أيضًا ضمن إطار حماية الأمن القومي وضمان الاعتدال الديني.

حرية الضمير والمعتقد: بين النظرية والتطبيق

أحد أبرز إنجازات دستور 2014 كان إدراج حرية الضمير والمعتقد كحق مكفول لجميع المواطنين. وقد فتحت هذه المادة الباب أمام الاعتراف القانوني بالأقليات الدينية والمُلحدين، وإن كان الواقع لا يزال يعكس تحديات كبيرة على هذا الصعيد. تواجه هذه الفئات، خاصة من يعلنون تركهم للإسلام، انتقادات اجتماعية شديدة، إضافة إلى مضايقات قانونية في بعض الحالات، رغم الحماية الدستورية. التعامل مع هذه المسائل لا يزال يتأرجح بين الضغط المجتمعي والاعتراف القانوني، ما يجعل هذه الحريات في تونس موضوعًا متجددًا للنقاش العام.

الأقليات الدينية في تونس

تعيش في تونس أقليات دينية صغيرة، أبرزها الطائفة اليهودية التي تُعد الأقدم في شمال إفريقيا، وتتمركز بشكل خاص في جزيرة جربة. رغم العدد المحدود لليهود التونسيين اليوم، إلا أن الدولة تولي اهتمامًا خاصًا لهذه الطائفة، وتشارك في تنظيم شعائرها، كحج الغريبة السنوي. كما توجد طوائف مسيحية صغيرة، معظمها من الأجانب المقيمين، وتمارس شعائرها بحرية نسبية. غير أن التحديات القانونية المتعلقة ببناء دور العبادة أو تسجيل الجمعيات الدينية لا تزال قائمة، وتعكس بطئًا في عملية التحديث التشريعي بما يتماشى مع الحقوق الكاملة للمواطنة.

العلمانية في الخطاب السياسي التونسي

لا تُعد تونس دولة علمانية بالمعنى الصارم، لكنها تبنّت كثيرًا من المبادئ المدنية في تسيير شؤونها. الحديث عن علمانية الدولة في تونس يثير انقسامًا بين تيارات تؤمن بفصل تام بين الدين والسياسة، وأخرى ترى في الإسلام مرجعية قيمية يجب أن تُعتمد في التشريع والسياسات العامة. الخطاب السياسي الرسمي غالبًا ما يتجنب إعلان موقف صريح في هذا السياق، مفضلًا الاعتماد على عبارات مثل “دولة مدنية” و”مقاصد الإسلام” لخلق توازن بين الطرفين.

التحديات المستقبلية

تواجه تونس في السنوات القادمة تحديًا كبيرًا في المحافظة على هذا التوازن بين هوية الدولة ومكونها الديني، وبين الحقوق المدنية والحريات الشخصية. ففي ظل التوترات الاجتماعية، وتنامي الخطاب الديني المتشدد في بعض الأوساط، تبرز الحاجة إلى تحديث السياسات الدينية بما يعزز قيم التسامح والانفتاح دون الإخلال بثوابت المجتمع. كما أن تحديث المنظومة التعليمية والإعلامية للتوعية بقيم التعددية والاختلاف يعد شرطًا جوهريًا لإنجاح أي مشروع ديمقراطي حقيقي.

خاتمة

تُجسد تجربة تونس في تحديد مكانة الدين داخل الدولة نموذجًا فريدًا في العالم العربي، إذ تجمع بين التأصيل الإسلامي والانفتاح المدني. ومع أن الطريق لا يزال طويلًا أمام ترسيخ هذا التوازن في الممارسة اليومية، إلا أن ما تحقق حتى اليوم يمثل خطوة مهمة في بناء دولة مدنية ذات هوية إسلامية معتدلة، تضمن الحريات وتحترم التعدد.