تُعتبر جزيرة موريشيوس واحدة من أكثر الدول تعددًا وتنوعًا دينيًا في القارة الإفريقية، وقد نجحت بشكل لافت في بناء نموذج من التسامح والتعايش السلمي بين أتباع الديانات المختلفة. ورغم صغر مساحتها وعدد سكانها، إلا أن موريشيوس استطاعت أن تُبرِز نفسها كنموذج فريد لاحترام الأديان وممارسة الحريات الدينية. تتجلى هذه الخصوصية في طبيعة النظام الدستوري العلماني الذي لا ينحاز إلى ديانة بعينها، بل يضمن حرية المعتقد لكافة المواطنين.
أقسام المقال
دستور موريشيوس وحرية الدين
ينص دستور موريشيوس بوضوح على أن الدولة لا تتبنى أي دين رسمي، ويؤكد على مبدأ العلمانية بوصفه قاعدة أساسية لنظام الحكم. هذا يعني أن الحكومة لا تنحاز لأي طائفة دينية أو تتبنى سياسات لصالح ديانة محددة. وتُصنف حرية الدين كمكون جوهري من الحريات الفردية للمواطنين، حيث يتمتع الجميع بحق اعتناق الدين الذي يختارونه وممارسة طقوسه دون تدخل أو قيود من الدولة، ما لم تتعارض هذه الممارسات مع النظام العام أو حقوق الآخرين.
التركيبة الدينية في موريشيوس
تعكس الإحصائيات السكانية الحديثة طبيعة موريشيوس التعددية، إذ يتوزع السكان بين ديانات متعددة بنسب متقاربة نوعًا ما. وتُعد الهندوسية الديانة الأكثر انتشارًا بنسبة تقترب من 48%، تليها المسيحية (حوالي 32%) ثم الإسلام (نحو 18%). كما توجد أقليات صغيرة تتبع ديانات أخرى مثل البوذية، والبهائية، وحتى بعض من لا يعتنقون أي ديانة. هذا التنوع لا ينعكس فقط في الإحصاءات، بل أيضًا في المظاهر اليومية من تعدد دور العبادة وتنوع المناسبات الدينية التي تُحتفل بها بشكل علني.
الهندوسية في موريشيوس
ترتبط الهندوسية في موريشيوس بالهجرة التاريخية للعمال الهنود خلال القرن التاسع عشر، والذين جُلبوا بعد إلغاء العبودية للعمل في مزارع قصب السكر. ورغم التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي واجهتها هذه الفئة في البداية، إلا أنها استطاعت الحفاظ على ديانتها وتقاليدها جيلاً بعد جيل. تنتشر المعابد في شتى أنحاء البلاد، ويُعتبر مهرجان “ماها شيفاراتري” أكبر مناسبة دينية، حيث يسير مئات الآلاف من الهندوس سيرًا على الأقدام إلى بحيرة “غران باسين” المقدسة. تُعد مشاركة الدولة في دعم مثل هذه الاحتفالات الدينية مثالًا واضحًا على احترام التنوع.
المسيحية في موريشيوس
تنتشر المسيحية في موريشيوس بين الكاثوليك والبروتستانت، وتُعتبر الكاثوليكية الطائفة الأوسع انتشارًا. وقد دخلت المسيحية البلاد أثناء الاحتلالين الفرنسي والبريطاني، وتوارثتها الأجيال لاحقًا. تضم الجزيرة كنائس تاريخية تعود إلى قرون، وتُعد رموزًا معمارية وثقافية. وتُكرس الأعياد المسيحية كأيام راحة وطنية، ويُشارك فيها أحيانًا حتى غير المسيحيين، في مظهر من مظاهر التداخل الثقافي بين الديانات. من أبرز المناسبات عيد الميلاد، الذي يُزين خلاله سكان الجزيرة من مختلف الخلفيات منازلهم ومحالهم التجارية.
الإسلام في موريشيوس
وصل المسلمون إلى موريشيوس ضمن موجات الهجرة الآسيوية، لا سيما من الهند، وكانوا في معظمهم من أهل السنة والجماعة. ويمثل المسلمون اليوم نسبة معتبرة من السكان، ويُعرفون بانخراطهم القوي في مجالات التعليم والتجارة والمجتمع المدني. تنتشر المساجد في مختلف المدن، وتُمارس الشعائر الدينية بحرية تامة، كما تُخصص المدارس القرآنية لأبناء المسلمين في بيئة آمنة ومحترمة. الأعياد الإسلامية مثل عيد الفطر وعيد الأضحى تحظى باعتراف رسمي، وتُعطل فيها الدوائر الحكومية.
الديانات الأخرى والتعددية الدينية
إلى جانب الديانات الرئيسية، تحتضن موريشيوس مجتمعات دينية صغيرة مثل البوذية والبهائية وحتى بعض أتباع الديانة اليهودية. كما توجد نسبة لا بأس بها من السكان الذين يعرّفون أنفسهم كـ”لادينيين”، دون أن يُشكّل هذا مدعاة لأي تمييز أو استبعاد اجتماعي. وتنتشر المدارس الدينية الخاصة التي تُقدم التعليم الروحي لأتباع مختلف الأديان دون تدخل من الدولة، مع خضوعها لإشراف إداري لضمان الالتزام بالمعايير التعليمية العامة. في هذا السياق، لا يشعر أتباع أي دين بأنهم مضطهدون أو مهمّشون، بل يُشاركون في الأنشطة المجتمعية والسياسية بكل حرية.
الدولة ودعم الأديان
رغم الطابع العلماني للحكم، إلا أن حكومة موريشيوس تقدم دعمًا ماديًا ومعنويًا للمؤسسات الدينية الكبرى وفقًا لحجمها السكاني ومساهمتها المجتمعية. تُخصص الميزانية السنوية مبالغ تُوزع على الطوائف المختلفة لضمان استمرار أنشطتها، سواء في بناء دور العبادة أو تمويل المدارس والبرامج الاجتماعية. كما تحظى المؤسسات الدينية بإعفاءات ضريبية، وتُمنح تصاريح خاصة لإقامة الفعاليات الكبرى. وتحرص الحكومة على التمثيل العادل للأديان في الإعلام الرسمي والاحتفالات الوطنية.
الدين والتعليم والثقافة
تُدمج القيم الدينية ضمن المناهج الدراسية في موريشيوس بطريقة تحترم التعدد، حيث يُتاح للطلبة اختيار دروس التربية الدينية المناسبة لانتماءاتهم. وتُشجع الدولة على التعرف على الديانات الأخرى كوسيلة لبناء الاحترام المتبادل. كما تُعرض برامج تلفزيونية وإذاعية تتناول القضايا الدينية والثقافية بمشاركة رجال دين من مختلف الخلفيات، مما يعزز الوعي المجتمعي. وتُقام مهرجانات ثقافية تشارك فيها مؤسسات دينية لعرض فنونها التقليدية ومأكولاتها وموسيقاها.
الخلاصة
إن تجربة موريشيوس في التعامل مع التعددية الدينية تمثل نموذجًا حضاريًا نادرًا في عالم يشهد تزايد النزاعات الدينية والطائفية. استطاعت هذه الجزيرة الصغيرة أن تحتضن ديانات متعددة دون أن تُمَزِّقها الخلافات، بل جعلت من تنوعها مصدر قوة ووحدة. ويظل السر وراء هذا النجاح هو المزيج الذكي بين النصوص الدستورية الحامية للحريات، والسياسات العملية المنفتحة، والتقاليد الثقافية التي تؤمن بأن التنوع لا يعني الانقسام، بل هو ثراء ينبغي الاحتفاء به.