الرواتب في إريتريا

إريتريا، الدولة الواقعة على الساحل الشرقي لأفريقيا، تُعد واحدة من أكثر البلدان التي تشهد حالة اقتصادية فريدة تتداخل فيها المعطيات السياسية مع الواقع المعيشي للناس. ورغم استقلالها عن إثيوبيا في أوائل التسعينات، إلا أن التحديات الاقتصادية بقيت قائمة وتزايدت على مر السنين، ما انعكس على شكل الرواتب والدخول ومستوى المعيشة. هذا المقال يسلط الضوء على خريطة الرواتب في إريتريا، من حيث الحد الأدنى، الفروقات بين القطاعات، تأثير السياسات الوطنية، وأفق التحسن في ظل الواقع الاقتصادي الراهن.

الحد الأدنى للأجور: غياب التشريع وتعدد المعايير

رغم الأوضاع الاقتصادية الصعبة، لا تملك إريتريا قانونًا واضحًا لتحديد الحد الأدنى للأجور. يعتمد تحديد الرواتب غالبًا على الاتفاقات الفردية أو شروط جهات العمل الحكومية والخاصة، ما يفتح الباب للفروقات الكبيرة في الأجور حتى بين العاملين في نفس المجال. هذا الغياب التنظيمي يجعل فئات واسعة من المواطنين معرضين للظلم الوظيفي وتدني الأجر، خاصة في القطاعات الريفية والحرفية.

القطاع الحكومي: دخل منخفض ومسؤوليات ثقيلة

الموظفون الحكوميون يشكلون نسبة كبيرة من القوى العاملة في البلاد، سواء في الوزارات أو الإدارات المحلية أو المؤسسات التابعة للدولة. ومع ذلك، فإن رواتبهم لا تتناسب مع حجم المسؤوليات الملقاة عليهم. في المتوسط، يتراوح الراتب الشهري بين 500 و1,500 ناكفا إرتيري، ما يعادل نحو 33 إلى 100 دولار أمريكي، في ظل ضعف القدرة الشرائية والتضخم المحلي، ما يجعل العيش الكريم حلمًا بعيد المنال.

القطاع الخاص: فرص محدودة برواتب غير مشجعة

يُعد القطاع الخاص محدودًا في إريتريا نتيجة للقيود على الاستثمارات الأجنبية والبيروقراطية الحكومية. الشركات القليلة العاملة في هذا القطاع، لا تستطيع دفع رواتب عالية بسبب غياب التنافسية وصعوبة الحصول على تمويل. تتراوح الرواتب في هذا القطاع بين 1,000 و3,000 ناكفا إرتيري، أي ما يعادل 66 إلى 200 دولار، وهي أجور بالكاد تغطي الاحتياجات الأساسية.

الخدمة الوطنية: نظام إلزامي يُقلص فرص النمو الوظيفي

واحدة من أبرز التحديات التي تواجه الشباب الإرتيري هي الخدمة الوطنية الإلزامية التي قد تستمر لسنوات. المجندون فيها يتقاضون أجورًا رمزية، وغالبًا ما تُخصص لهم مهام مدنية بالإضافة للمهام العسكرية. هذا النظام يُعتبر أحد أسباب الهجرة الجماعية للكفاءات، ويحد من قدرة السوق المحلي على استيعاب قوى عاملة منتجة ومؤهلة.

المجالات الحيوية: التعليم والصحة تحت الضغط

في قطاعي التعليم والصحة، تتضاعف الأزمة. المعلمون يتقاضون رواتب بين 800 و1,200 ناكفا، والأطباء والممرضون قد تصل رواتبهم إلى 4,000 ناكفا في أحسن الأحوال. هذه الأجور لا تتماشى مع طبيعة العمل وضغوطه، كما أنها لا توفر حياة كريمة. النتيجة الطبيعية هي نقص الكفاءات في المستشفيات والمدارس، واضطرار بعض المتخصصين للعمل في أكثر من جهة لتعويض النقص المالي.

الاقتصاد غير الرسمي: ملاذ مؤقت لكنه هش

العديد من الإرتيريين يضطرون للجوء إلى الاقتصاد غير الرسمي، سواء في شكل أعمال حرة، أو تجارة بسيطة، أو خدمات يدوية. هذا القطاع يوفر دخلًا غير ثابت، ولا يضمن أي حماية اجتماعية أو تأمين صحي، مما يزيد من هشاشة الوضع الاقتصادي للأفراد، خاصة مع غياب القروض الصغيرة أو برامج دعم رواد الأعمال.

العملة والتضخم: الديناميكية التي تلتهم الرواتب

الناكفا الإرتيري يعاني من ضعف شديد أمام العملات الأجنبية، وهو ما أدى إلى ارتفاع الأسعار في السوق المحلي، وغياب القدرة الشرائية حتى لأصحاب الدخل المتوسط. هذا الوضع يجعل أي زيادة في الراتب غير فعالة عمليًا، ما لم تُرفق بإصلاحات اقتصادية حقيقية تكبح التضخم وتدعم الإنتاج المحلي.

دور التحويلات الخارجية: شريان حياة للعديد من الأسر

بسبب هجرة الكثير من الإرتيريين إلى دول أوروبا وأفريقيا والخليج، أصبحت التحويلات الخارجية تمثل أحد أهم مصادر الدخل للعائلات. يعتمد آلاف الأشخاص على الأموال التي يرسلها أقاربهم في الخارج، والتي تُستخدم في توفير احتياجات المعيشة أو الاستثمار في أنشطة صغيرة. ومع ذلك، فإن هذا الاعتماد يضع البلاد في موقف هش ويجعل اقتصادها مرهونًا بعوامل خارجية.

النساء في سوق العمل: فجوة في الرواتب وفرص متدنية

تعاني النساء في إريتريا من فجوة واضحة في الأجور، خاصة في القطاعات التقليدية مثل الزراعة والتعليم. كما أن نسبة مشاركتهن في القوى العاملة لا تزال أقل بكثير من الرجال، نتيجة للعوامل الثقافية، والمسؤوليات الأسرية، وضعف السياسات الداعمة للمرأة. هذا الواقع يقلل من فرص تمكين المرأة اقتصاديًا ويؤثر سلبًا على النمو العام.

الآفاق المستقبلية: كيف يمكن تحسين أوضاع الرواتب؟

لتحقيق تحسن فعلي في مستوى الرواتب، يجب على الحكومة الإريترية أن تبدأ بإصلاح هيكلي شامل يشمل إعادة النظر في سياسات الخدمة الوطنية، وفتح المجال أمام الاستثمار الخاص، وتحفيز الاقتصاد المحلي، وتبني أنظمة واضحة للحد الأدنى من الأجور. كما أن إدماج الشباب، والنساء، والعاملين في القطاع غير الرسمي ضمن إطار قانوني منظم سيساهم في بناء اقتصاد أكثر عدالة واستدامة.