يشكّل ملف الرواتب في العراق أحد أكثر المواضيع حساسية وأهمية على الساحة الاقتصادية والاجتماعية. في ظل التحديات المتراكمة التي يواجهها العراق منذ سنوات، باتت مسألة الأجور تمثل انعكاسًا مباشرًا للأوضاع الاقتصادية، ومدى التزام الدولة بتحقيق العدالة الاجتماعية. ومع دخول عام 2025، شهدت البلاد حراكًا لافتًا في إعادة هيكلة سلم الرواتب، وزيادة الحد الأدنى للأجور، والاعتماد على التكنولوجيا الحديثة في صرف الرواتب، وكلها خطوات تشير إلى رغبة الحكومة في بناء نظام مالي أكثر كفاءة وإنصافًا.
أقسام المقال
سلم الرواتب الجديد في العراق 2025
أعلنت الحكومة العراقية في مطلع 2025 عن سلسلة من التعديلات المهمة في سلم الرواتب لموظفي الدولة، وذلك ضمن خطة شاملة للإصلاح الإداري والمالي. ركّزت هذه التعديلات على تحسين أجور الدرجات الوظيفية الدنيا، إذ تم رفع رواتب موظفي الدرجات السابعة إلى العاشرة، بنسب تراوحت بين 60% و150%، لتصل بعض الرواتب إلى 500,000 دينار عراقي بعد أن كانت أقل من النصف. تأتي هذه الخطوة تماشيًا مع ارتفاع تكاليف المعيشة، وسعي الحكومة إلى تقليل الفجوة بين طبقات الموظفين في القطاع العام.
متوسط الرواتب في العراق
تُظهر الإحصاءات الأخيرة أن متوسط الرواتب الشهرية في العراق يناهز 583 دولارًا، وهو رقم يعكس مستوى الدخل العام مقارنة بالدول المجاورة. لكن هذا المتوسط لا يعكس بالضرورة الواقع الفعلي لجميع الفئات، إذ أن فروقات الرواتب بين القطاعين العام والخاص، وبين العاصمة بغداد والمحافظات الأخرى، تظل واسعة. الموظفون في شركات النفط والبنوك يتقاضون رواتب مرتفعة نسبيًا، في حين يعاني موظفو القطاعات الخدمية والتعليمية والصحية من تفاوت واضح في الأجور.
الحد الأدنى للرواتب في العراق
أقرت الحكومة العراقية تحديثًا مهمًا في الحد الأدنى للأجور، إذ تم رفعه ليبلغ 450,000 دينار عراقي شهريًا بدلاً من 350,000 دينار، وذلك في إطار جهود الدولة لتعزيز مستوى المعيشة وحماية العمال من تداعيات ارتفاع الأسعار. ويُعد هذا القرار جزءًا من قانون الضمان الاجتماعي الجديد الذي يستهدف تحسين بيئة العمل وضمان دخل كريم لفئات العمال في القطاعات العامة والخاصة. كذلك، شمل القرار تعديلًا على الحد الأدنى للرواتب التقاعدية، حيث ارتفع من 500,000 إلى 600,000 دينار عراقي، ليصبح أكثر اتساقًا مع المتطلبات المعيشية الحالية. وينص قانون العمل العراقي رقم 37 لسنة 2015 على ضرورة مراجعة الحد الأدنى للأجور بشكل دوري كل سنتين من قبل لجنة تضم ممثلين عن الحكومة والعمال وأرباب العمل، لضمان استمرار توافق الأجور مع المؤشرات الاقتصادية ومعدل التضخم. تأتي هذه الخطوات استجابة لمطالب النقابات العمالية التي دعت إلى زيادات إضافية لتواكب الغلاء المتزايد.
تحديثات في نظام صرف الرواتب
عملت وزارة المالية العراقية خلال عام 2025 على إعادة تنظيم مواعيد صرف الرواتب بما يضمن انتظام العملية ويقلل من الفوضى والضغوط على النظام المصرفي. أصبح صرف رواتب موظفي الدولة يتم وفق جدول زمني واضح؛ حيث تُصرف رواتب المدنيين في الأسبوع الأول من كل شهر، تليها رواتب العسكريين والأجهزة الأمنية في الأسبوع الثاني. وتم توحيد إجراءات الصرف الإلكتروني لتقليل المعاملات الورقية وتسهيل عمليات المراقبة والمحاسبة.
التحول الرقمي في صرف الرواتب
في إطار التحول الرقمي الذي يشهده العراق، أطلقت الحكومة نظامًا إلكترونيًا موحدًا لصرف الرواتب، يربط الوزارات بمصرف الرافدين والرشيد والبنك المركزي. هذا النظام يتيح للموظف استلام راتبه عبر بطاقة ذكية مرتبطة بحسابه البنكي أو بمحفظة رقمية، مما يقلل من احتمالات التلاعب ويزيد من سرعة العمليات. كما يساهم في تقليص نسب الفساد المرتبطة بالرواتب الوهمية أو المزدوجة.
التحديات الاقتصادية وتأثيرها على الرواتب
رغم الجهود الحكومية، تبقى الرواتب في العراق رهينة للظروف الاقتصادية وتقلبات السوق العالمي، خصوصًا أسعار النفط التي تشكل المصدر الرئيس للإيرادات. تشكل الرواتب ومخصصات التقاعد ما يزيد عن 55% من إجمالي الموازنة العامة، مما يجعل أي خلل في أسعار النفط أو الإنتاج يؤثر مباشرة على قدرة الدولة في تسديد الرواتب. كذلك، يُعد ارتفاع نسبة التضخم وتراجع قيمة الدينار من أبرز العوامل التي تآكلت معها القوة الشرائية للموظفين.
الرواتب في القطاع الخاص
يُعاني القطاع الخاص في العراق من غياب معايير موحدة للرواتب، ما يؤدي إلى تباين كبير في الأجور بين الشركات. فالرواتب في الشركات الأجنبية أو العاملة في مجال النفط والخدمات التقنية أعلى بكثير من تلك المقدمة في الشركات المحلية الصغيرة أو العاملة في القطاعات التقليدية. كما أن عدم تطبيق قانون العمل بصرامة يجعل الكثير من العمال دون عقود رسمية أو ضمانات اجتماعية، ما يزيد من هشاشة وضعهم المالي.
العوامل المؤثرة في تحديد الرواتب
تلعب عدة عوامل دورًا حاسمًا في تحديد الرواتب في العراق، أبرزها المؤهل العلمي، عدد سنوات الخبرة، نوع الجهة الموظفة (حكومية أو خاصة)، موقع العمل الجغرافي، والمهارات الفنية المتخصصة. كما تؤثر الأوضاع الأمنية في بعض المحافظات على مستوى الرواتب المحفزة لجذب الكفاءات، في حين تزداد فرص تحسين الأجور في مجالات مثل تكنولوجيا المعلومات، والطب، والهندسة، نظراً لنقص الكوادر المتخصصة.
آفاق تحسين الرواتب مستقبلاً
تخطط الحكومة العراقية لمواصلة الإصلاحات المالية والهيكلية التي تهدف إلى تحسين مستويات الرواتب بشكل مستدام. تشمل هذه الخطط إعادة تقييم الوظائف الحكومية، وتقليص الفجوة بين الرواتب العليا والدنيا، وتفعيل برامج الدعم للفئات الأقل دخلًا. كما يتم التفكير في خلق صندوق سيادي لدعم الرواتب في أوقات الأزمات، خاصة مع احتمال تقلّب أسواق النفط العالمية في المستقبل.
الختام
يمثل ملف الرواتب في العراق تحديًا مزدوجًا للحكومة، يجمع بين الطموحات الإصلاحية والقيود الواقعية المفروضة من الاقتصاد. وبينما تحاول الدولة جاهدة توفير رواتب عادلة ومستقرة لكل موظف وعامل، فإن الطريق ما زال طويلاً نحو تحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية. ويبقى الأمل معقودًا على استمرارية الإصلاحات ورفع كفاءة إدارة الموارد العامة.