تشهد الرواتب في تونس تحولات لافتة في السنوات الأخيرة، مدفوعة بعوامل اقتصادية داخلية وضغوط اجتماعية متزايدة، فضلًا عن تأثيرات عالمية مثل التضخم وسعر صرف الدينار التونسي. وقد أصبحت مسألة الأجور محورية في النقاش العام، خاصة في ظل سعي المواطنين لتحسين مستوى معيشتهم، ومطالبة النقابات بزيادات عادلة، وسعي الحكومة إلى التوفيق بين ميزانيتها المحدودة والاحتياجات المتزايدة. في هذا المقال، نُسلط الضوء على أحدث الأرقام المتعلقة بالرواتب في تونس، والفروقات بين القطاعات والمهن، وأثر السياسات الاقتصادية، مع تحليل الآفاق المستقبلية لهذا الملف الحساس.
أقسام المقال
متوسط الرواتب وأعلى القطاعات دخلًا
يبلغ متوسط الراتب السنوي الإجمالي في تونس لعام 2025 نحو 76,092 دينار تونسي، أي ما يعادل حوالي 6,340 دينار شهريًا، مع الأخذ بعين الاعتبار التفاوت الكبير بين المهن والمستويات التعليمية. يُعد قطاع الصحة من بين الأعلى دخلًا، حيث يتقاضى الأطباء وأخصائيو الجراحة رواتب تفوق 200,000 دينار سنويًا. كما يشهد قطاع التكنولوجيا وعلوم البيانات ارتفاعًا تدريجيًا في الأجور، متأثرًا بالطلب المتزايد على الكفاءات في هذا المجال.
الرواتب حسب الجنس والمستوى التعليمي
تشير البيانات إلى وجود فجوة كبيرة بين أجور الرجال والنساء، حيث يحصل الرجال على متوسط راتب سنوي يبلغ 82,447 دينار، مقابل 52,612 دينار للنساء، وهو ما يعكس تحديات تتعلق بالمساواة في الأجور وفرص الترقية. من جهة أخرى، يُلاحظ أن الحاصلين على شهادات جامعية عليا، لا سيما في التخصصات الهندسية والطبية، يتقاضون رواتب أعلى بكثير من الحاصلين على تعليم ثانوي فقط.
الفروقات بين القطاع العام والخاص
في القطاع العام، يتقاضى الموظفون رواتب مستقرة لكن محدودة نسبيًا، إذ يبلغ متوسط الراتب السنوي حوالي 42,121 دينار تونسي. أما في القطاع الخاص، فتميل الرواتب إلى أن تكون أعلى في بعض المجالات، ولكنها غير مستقرة وقد تخضع لتفاوتات كبيرة حسب حجم الشركة ومجال عملها. غالبًا ما يقدم القطاع الخاص حوافز إضافية مثل المكافآت والتأمين الصحي، لكن في المقابل لا يتمتع بنفس مستوى الأمان الوظيفي الموجود في القطاع العام.
أثر التضخم وسعر الدينار على القدرة الشرائية
أثّرت معدلات التضخم المرتفعة في تونس، والتي تجاوزت 9% في بعض الأشهر، على القيمة الحقيقية للرواتب، حيث أصبحت الزيادات الاسمية في الأجور غير كافية لمجاراة ارتفاع الأسعار، خصوصًا في مجالات الغذاء والسكن والطاقة. كما أسهم تراجع سعر صرف الدينار مقابل العملات الأجنبية في تقليص القوة الشرائية، خاصة للعائلات التي تعتمد على منتجات مستوردة أو لديها أبناء يدرسون في الخارج.
الإصلاحات الحكومية والزيادات الأخيرة
استجابة للضغوط الاجتماعية، أقرت الحكومة زيادات تدريجية في الأجور شملت تعديل الضريبة على الدخل والترفيع في الأجر الأدنى المضمون (SMIG) بنسبة 7.5%، ليصل في القطاع غير الفلاحي إلى 497.7 دينار شهريًا مقابل 403.1 دينار سابقًا. كما تم الاتفاق على مراجعة الأجور في عدد من القطاعات الحيوية مثل التعليم والصحة والإعلام، في إطار حوارات بين الحكومة والنقابات.
تحديات سوق العمل وتأثيرها على الرواتب
تُواجه سوق العمل في تونس تحديات كبرى، من أبرزها ارتفاع نسب البطالة (فوق 15%)، وخصوصًا بين حاملي الشهادات العليا، مما يدفع الكثيرين إلى القبول برواتب منخفضة أو التفكير في الهجرة. كما يواجه القطاع الخاص صعوبات هيكلية تتعلق بالتمويل، وضعف التكوين المهني، وتقلص حجم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة. هذه العوامل مجتمعة تؤثر سلبًا على مستوى الرواتب وإمكانية زيادتها على المدى القصير.
الآفاق المستقبلية وتحولات سوق العمل
مع تطور الاقتصاد الرقمي وظهور فرص عمل جديدة في مجال البرمجة والعمل الحر عبر الإنترنت، يُتوقع أن تتغير طبيعة الرواتب في السنوات القادمة. قد تبدأ بعض المهن الجديدة بتقديم رواتب مجزية تفوق تلك التقليدية، مما يفتح أفقًا جديدًا أمام الشباب، خاصة في حال تحسنت البنية التحتية الرقمية وتم تحديث المناهج التعليمية. إلا أن هذا التغيير يتطلب دعمًا حكوميًا وتكاملًا بين القطاعين العام والخاص لضمان توزيع عادل للفرص.