تلعب الجماعات العربية في إريتريا دورًا تاريخيًا وحضاريًا عميقًا يمتد لقرون طويلة، ويعكس تشابكًا ديموغرافيًا وثقافيًا ثريًا بين الشعوب العربية والإريترية. هذا التداخل ليس وليد اللحظة، بل هو امتداد لحركة بشرية نشطة على ضفاف البحر الأحمر منذ عصور ما قبل الإسلام، مرورًا بالعصور الإسلامية المتعاقبة، ووصولًا إلى يومنا هذا. ويبدو هذا التأثير واضحًا في كل من اللغة، والديانة، والهوية الاجتماعية، والأنماط المعيشية في مناطق مختلفة من البلاد.
أقسام المقال
الهجرات العربية عبر العصور
منذ عصور الجاهلية، شكلت الهجرات العربية إلى سواحل القرن الإفريقي موجات بشرية مؤثرة، حيث انتقلت قبائل من اليمن والحجاز وعُمان إلى مصوع وعدولي وسواكن، واستقر بعضها داخل الأراضي الإريترية الحالية. هذه الهجرات لم تكن مجرد تحركات سكانية، بل حملت معها الدين الإسلامي واللغة العربية، وتركزت في مناطق الساحل الشرقي للبلاد. وقد تعزز هذا التواجد مع ازدهار التجارة البحرية خلال العصور الإسلامية، خصوصًا في ظل الدولة الأيوبية ثم العثمانية، التي استخدمت موانئ إريتريا كنقاط استراتيجية.
أبرز القبائل العربية وتأثيرها
تُعتبر قبائل مثل الرشايدة وبني عامر من أبرز الجماعات ذات الأصول العربية في إريتريا. الرشايدة قدموا من الجزيرة العربية في القرن التاسع عشر، وما يزالون يحافظون على لهجتهم البدوية وطابعهم البدوي في اللباس والعادات. أما قبيلة بني عامر، فهي واحدة من أكبر المكونات السكانية في غرب إريتريا وشرق السودان، وتتميز بهوية عربية قوية ولها أدوار تاريخية في مقاومة الاستعمار، ومساهمات في التجارة الرعوية والزراعية.
اللغة العربية ومكانتها
اللغة العربية تُعد من أهم روافد الهوية في إريتريا. استخدمت في المؤسسات التعليمية والدينية والإدارية خلال فترات الاستعمار البريطاني والإيطالي، كما اعترف بها رسميًا كلغة وطنية بعد الاستقلال في أوائل التسعينيات. لكنها تعرضت لاحقًا لتهميش سياسي ضمن سياسة تعريب محدودة النطاق، ما دفع العديد من العرب الإريتريين للمطالبة بحقوق لغوية أوسع. ولا تزال العربية تستخدم على نطاق واسع في المساجد، وفي المدارس الإسلامية، وبين القبائل العربية، مما يجعلها حاضرة رغم العوائق.
العرب والإسلام في إريتريا
كان العرب الأوائل من أوائل من نشر الإسلام في إريتريا، حيث وصلت الدعوة الإسلامية إلى سواحلها منذ هجرة الصحابة إلى الحبشة. وتُعد المدن الساحلية مثل مصوع من أقدم المراكز الإسلامية في القارة الإفريقية. اليوم، يُمثل المسلمون حوالي نصف سكان إريتريا، ومعظمهم من أصول عربية أو يتحدثون العربية، وتلعب المساجد والتعليم الإسلامي دورًا كبيرًا في الحفاظ على الهوية الدينية والثقافية.
العرب والحياة الاقتصادية
ساهم العرب في تطوير قطاعات متعددة في إريتريا، خصوصًا في التجارة والصيد البحري والزراعة والرعي. في المناطق الساحلية، شكل العرب جزءًا أساسيًا من شبكات التجارة عبر البحر الأحمر، مستفيدين من علاقاتهم مع الجزيرة العربية. كما ساعدت امتداداتهم في السودان على بناء جسور اقتصادية ومجتمعية فاعلة.
التحديات السياسية والثقافية
رغم الأدوار التاريخية والحضارية للعرب في إريتريا، فإنهم يواجهون تحديات ملحوظة على صعيد التمثيل السياسي، والحفاظ على الهوية الثقافية، واللغة. يرى كثير من النشطاء العرب الإريتريين أن الدولة تميل نحو تفضيل الهويات الأخرى، ما يؤثر على التنوع الثقافي واللغوي في البلاد. كما أن بعض السياسات التعليمية تقلص من حضور العربية في المؤسسات الرسمية، ما يثير المخاوف حول مستقبلها.
العلاقات بين إريتريا والدول العربية
للعلاقات بين إريتريا والدول العربية، خاصة الخليج والسودان ومصر، أثر كبير في دعم المجتمعات العربية داخل إريتريا. فعلى سبيل المثال، تستفيد بعض المناطق الإريترية من الدعم التعليمي والديني من مؤسسات عربية. كما تستمر الهجرات الإريترية إلى دول الخليج، حيث تحتفظ الجاليات الإريترية هناك بلغتها وثقافتها وهويتها العربية.
الهوية المزدوجة للعرب الإريتريين
يعيش العرب في إريتريا حالة من الاندماج المزدوج بين هويتهم العربية وارتباطهم العميق بالوطن الإريتري. هذا التوازن يظهر جليًا في طريقة عيشهم، وتفاعلهم الاجتماعي، وثقافتهم اليومية التي تجمع بين التقاليد العربية والإرث المحلي. وتُعد هذه الهوية مصدر فخر وتنوع في المجتمع الإريتري.
خاتمة
لا يمكن الحديث عن إريتريا دون التوقف عند الدور العميق والمؤثر للعرب في نسيجها الاجتماعي والثقافي والديني. من الهجرات القديمة إلى التأثيرات الحديثة، يبقى العرب أحد المكونات الحيوية التي أسهمت في صياغة هوية البلاد. وفي ظل التحديات السياسية واللغوية، يبقى الحفاظ على هذا المكون مسؤولية جماعية، تتطلب وعيًا وإرادة سياسية لضمان استمرار التنوع الثقافي والحضاري الذي لطالما ميّز إريتريا.