تُعد إريتريا من الدول الأفريقية التي تتسم بتنوع بيئتها الطبيعية وتاريخها الغني، إلا أن جانبًا مهمًا من واقعها يتمثل في سوق العمل الذي يعكس ملامح النضج التدريجي والتحديات الهيكلية. العمل في إريتريا ليس مجرد موضوع اقتصادي، بل يمثل انعكاسًا لتحولات سياسية، اجتماعية، وتنموية تتشكل ببطء في ظل سياسات محلية معقدة وعلاقات دولية متغيرة. ومع أن الاقتصاد يشهد نموًا في بعض القطاعات، إلا أن بيئة العمل لا تزال بحاجة إلى إصلاحات جوهرية لجذب الاستثمارات وتحفيز العمالة الوطنية. في هذا المقال، نستعرض واقع العمل في إريتريا بعمق، مع تسليط الضوء على القطاعات الحيوية، القوانين المنظمة، العقبات الميدانية، والفرص المتاحة مستقبلًا.
أقسام المقال
ملامح الاقتصاد الإريتري وتأثيره على سوق العمل
الاقتصاد الإريتري يعتمد بشكل رئيسي على الزراعة والتعدين، مع تزايد واضح في مساهمة قطاع الخدمات. تشير البيانات الاقتصادية إلى أن النمو السنوي يتراوح بين 2.5% و3.5% خلال الأعوام الأخيرة، ويرجع ذلك إلى مشاريع بنية تحتية كبرى وزيادة في النشاط التعديني. إلا أن الاقتصاد لا يزال يعاني من ضعف تنويع الموارد وتراجع في الاستثمارات الأجنبية المباشرة بسبب العقوبات الدولية السابقة ونقص الشفافية.
القطاعات الواعدة للتوظيف
رغم التحديات، هناك قطاعات في إريتريا تُعتبر منجماً لفرص العمل، لا سيما مع الدعم الحكومي لبعض المجالات.
- التعدين: يُعد من أهم مصادر العملة الصعبة، وتُعد مواقع مثل منجم بيشا من أكبر المشروعات النشطة، ما يُوفر فرص عمل للمهندسين والفنيين والعمال.
- الزراعة والصيد: يعمل بها أكثر من 60% من السكان، وهناك مبادرات لتحسين الإنتاج الغذائي وتعزيز الأمن الغذائي الوطني.
- القطاع الصحي: نتيجة لهجرة الأطباء، تزداد الحاجة إلى كوادر طبية وطنية وأجنبية، ما يفتح بابًا للتوظيف في المستشفيات والمراكز الصحية.
- التعليم: يوجد طلب مرتفع على المعلمين، خاصة في القرى والمناطق الريفية، ضمن إطار سياسة تعليم شامل.
- الخدمات والبنية التحتية: تشمل الفنادق، السياحة، والنقل، وتوفّر وظائف في مجالات الضيافة والصيانة والتشغيل.
الوضع القانوني والتنظيمي للعمل
يحكم قانون العمل الإريتري رقم 118 لسنة 2001 علاقات العمل في البلاد، وهو ينص على حقوق العامل مثل الحد الأدنى للأجور، ساعات العمل (48 ساعة أسبوعيًا)، والإجازات المرضية والسنوية. إلا أن التطبيق العملي لهذه القوانين يشوبه القصور في بعض المؤسسات، خصوصًا تلك التي تُدار بإشراف حكومي مباشر.
العمل الإجباري والخدمة الوطنية
أحد أكثر الجوانب المثيرة للجدل في سوق العمل الإريتري هو نظام الخدمة الوطنية، والذي غالبًا ما يمتد لفترات غير محددة قانونيًا. يُلزم هذا النظام الشباب بالعمل في قطاعات حكومية، تعليمية، أو عسكرية بأجور رمزية. ويُعد هذا النظام عائقًا أمام الانخراط الحر في سوق العمل، كما يدفع نسبة كبيرة من الشباب لمحاولة الهجرة بحثًا عن فرص أكثر حرية واستقرارًا.
فرص العمل في المنظمات الدولية والمؤسسات الأجنبية
نظرًا للقيود الحكومية المفروضة على القطاع الخاص، فإن الكثير من الباحثين عن عمل في إريتريا يتوجهون نحو الفرص التي تتيحها المنظمات الدولية كبرنامج الغذاء العالمي، واليونيسيف، واللجنة الدولية للصليب الأحمر. هذه المؤسسات تقدم رواتب أعلى وظروف عمل أفضل، ولكن التوظيف فيها يتطلب خبرات ميدانية ومهارات إدارية متقدمة، بالإضافة إلى إجادة اللغات الأجنبية.
التحديات التي تواجه الباحثين عن عمل
يواجه الشباب الإريتري عدة معوقات في دخول سوق العمل، أهمها:
- نقص فرص التدريب المهني المتخصص.
- ضعف بيئة ريادة الأعمال نتيجة القيود على القطاع الخاص.
- قلة الفرص المتاحة في المدن مقابل الريف.
- غياب شراكات فعالة بين الحكومة والمؤسسات التعليمية.
كما أن غالبية الوظائف المتاحة تقع في إطار العمل غير الرسمي، ما يجعل العمالة عُرضة للاستغلال وضعف الحماية القانونية.
آفاق وتوصيات لمستقبل سوق العمل
كي يتحول سوق العمل في إريتريا إلى بيئة أكثر إنتاجًا واستدامة، يجب التركيز على:
- تحفيز الاستثمار الأجنبي وتحسين مناخ الأعمال.
- إنشاء مراكز تدريب مهني حديثة تلبي حاجات السوق الفعلية.
- تحسين القوانين العمالية وضمان تطبيقها الصارم.
- إعادة هيكلة نظام الخدمة الوطنية ليتوافق مع معايير حقوق الإنسان والعمل الحر.
التحرك في هذا الاتجاه سيساهم في تقليل البطالة، تعزيز الكفاءة، وتشجيع الكفاءات الوطنية على البقاء والمشاركة في بناء الدولة.
خاتمة
العمل في إريتريا ليس مجرد وظيفة، بل هو تجربة معقدة يتقاطع فيها الاقتصادي مع السياسي، والتنموي مع الحقوقي. ورغم التحديات الكبيرة، فإن البلاد تمتلك إمكانيات كامنة هائلة، تتطلب فقط توجيهًا حكيمًا وتخطيطًا محكمًا لخلق بيئة عمل تُشجع على الإنتاج، التنافس، والاستقرار. من خلال إصلاحات حقيقية، يمكن لإريتريا أن تنتقل من مرحلة الاعتماد إلى الاستقلال الاقتصادي الكامل، ما سينعكس إيجابيًا على مستقبل الأفراد والمجتمع بأكمله.