العمل في السودان

يعيش السودان واحدة من أعقد الفترات في تاريخه الحديث، حيث تداخلت فيه الأزمات السياسية والاقتصادية مع تحديات الحرب والنزوح، مما جعل سوق العمل يعيش حالة من الاضطراب الشديد. في ظل انهيار البنية التحتية، وتهالك المؤسسات الإنتاجية، وتراجع الثقة في النظام المصرفي، باتت مسألة العمل ليست مجرد سعي للرزق، بل معركة بقاء يومية لملايين السودانيين. في هذا المقال، نسلط الضوء على واقع سوق العمل في السودان، ونستعرض أبرز التحديات والفرص، مع تحليل دقيق للقطاعات المتأثرة، وأثر النزوح والتعليم والسياسات الحكومية في هذا المشهد المعقد.

واقع البطالة وتراجع فرص العمل

منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، ارتفعت معدلات البطالة بشكل قياسي، لتصل وفقًا للتقديرات الأخيرة إلى نحو 56% من إجمالي القوى العاملة. هذه النسبة تعكس خروج قطاعات كاملة عن الإنتاج، وتوقف آلاف الشركات والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، بالإضافة إلى النزوح القسري لعدد هائل من العمال من العاصمة الخرطوم ومدن الإنتاج الكبرى.

الفجوة الكبيرة بين العرض والطلب في سوق العمل لم تعد مرتبطة فقط بالتخصصات، بل بالقدرة على الوصول إلى بيئة عمل آمنة، ووجود منظومة قانونية تحمي العامل وصاحب العمل في آن واحد. كما أن الأزمة الاقتصادية والتضخم المفرط جعلا من الرواتب غير كافية لمجاراة تكاليف الحياة، ما زاد من معدلات الهجرة النظامية وغير النظامية للخارج.

القطاعات المتضررة ومراكز النزوح

تُعد الخرطوم، الجزيرة، وجنوب دارفور من أكثر الولايات التي كانت توفّر فرص عمل قبل الحرب. اليوم، أصبحت هذه المناطق مراكز طاردة للعمالة نتيجة الدمار وانعدام الأمن. القطاع الصناعي تضرر بشدة بفقدان المصانع، والقطاع الزراعي يعاني من تراجع الإنتاج بسبب صعوبة الوصول إلى الحقول، ونقص الوقود والأسمدة.

في المقابل، نشأت مناطق جديدة لاستيعاب النازحين، مثل مدن الأبيض وبورتسودان، التي شهدت ضغطًا شديدًا على الخدمات وفرص العمل، ما أدى إلى ارتفاع حدة التنافس على الوظائف البسيطة وغير الرسمية.

العمل غير الرسمي وتوسع الاقتصاد الرمادي

نتيجة غياب الدولة في مناطق النزاع، وتوقف كثير من الأنشطة الرسمية، ازدهر الاقتصاد غير الرسمي، حيث بات الملايين يعتمدون على أعمال غير منظمة مثل البيع المتجول، النقل اليدوي، والعمل الموسمي. ورغم أن هذا النوع من العمل يوفر دخلًا مؤقتًا، إلا أنه يفتقر لأي ضمانات قانونية أو تأمينية.

هذا التوسع في الاقتصاد الرمادي يحمل مخاطر كبيرة على المدى الطويل، منها انتشار العمالة الطفولية، واستغلال النساء في أعمال مجهدة دون حماية، وغياب أي رقابة على شروط السلامة المهنية أو الأجور.

دور التعليم الفني والتدريب المهني

التعليم الفني والتدريب المهني كان من المفترض أن يكون رافعة لإعادة تأهيل الشباب السوداني لسوق العمل، لكن الوضع التعليمي يعاني من تدهور حاد، حيث توقفت مئات المدارس والمعاهد عن العمل، وتشتت الطلاب بين ولايات مختلفة.

البرامج التدريبية الموجودة تفتقر للتحديث، ولا ترتبط باحتياجات السوق الفعلية. وهناك حاجة ماسة إلى شراكة بين المؤسسات الدولية ووزارات التعليم لتوفير برامج تدريب قصيرة، مرنة، وتراعي واقع النزاع والنزوح.

النساء في سوق العمل السوداني

تمثل النساء نسبة كبيرة من القوى العاملة غير الرسمية، خاصة في قطاعات الزراعة، الخدمات المنزلية، والأسواق الشعبية. ومع النزوح المتكرر، تضاعف العبء الاقتصادي عليهن، وأصبحن المعيل الأول في كثير من الأسر. ورغم ذلك، ما زالت فرص التمكين الاقتصادي للنساء محدودة، بسبب القيود المجتمعية، والافتقار إلى رأس المال والتمويل.

العديد من المبادرات المحلية تعمل على دعم النساء النازحات من خلال التدريب على الحرف اليدوية والمشاريع الصغيرة، إلا أن هذه الجهود تبقى محدودة وتحتاج إلى دعم واسع النطاق لتوسيع أثرها.

التدخلات الحكومية والمنظمات الدولية

الحكومة الانتقالية تواجه تحديات جسيمة في إنعاش سوق العمل، لا سيما مع ضعف الموارد، وعدم السيطرة على كامل البلاد. ومع ذلك، هناك محاولات لإطلاق برامج دعم نقدي مؤقت، وتسهيل تمويل المشاريع متناهية الصغر. كما تقدم بعض المنظمات الدولية دعمًا فنيًا وماليًا لإعادة تأهيل البنية التحتية التعليمية والمهنية.

ومع ذلك، تظل هذه المبادرات في طور البداية، وتواجه تحديات لوجستية وأمنية. المطلوب هو خارطة طريق وطنية شاملة لإعادة هيكلة سوق العمل، وضمان حقوق العاملين في جميع القطاعات، بما في ذلك غير الرسمي منها.

الخلاصة والتوصيات

العمل في السودان لم يعد مجرد وظيفة أو وسيلة للعيش، بل أصبح مكونًا أساسيًا من معركة صمود الشعب السوداني في وجه الظروف المعقدة. ولكي تتم إعادة بناء هذا السوق، لا بد من توجيه الاستثمارات نحو التعليم الفني، وتوفير برامج حماية اجتماعية، وتنظيم الاقتصاد غير الرسمي.

كما أن تعزيز دور المرأة، ودعم المبادرات المجتمعية، وإشراك الشباب في عملية صنع القرار، يمكن أن تكون مفاتيح رئيسية لإحياء سوق العمل وخلق مستقبل أكثر استقرارًا اقتصاديًا واجتماعيًا.