اللغة الرسمية في إريتريا

تُعد إريتريا دولة متعددة الثقافات واللغات، ويُشكل هذا التعدد حجر أساس في هويتها الوطنية. فمنذ استقلالها، اختارت إريتريا نهجًا فريدًا في إدارة اللغات، قائمًا على احترام التنوع دون فرض لغة رسمية واحدة على الشعب. هذا التوجه السياسي والثقافي يعكس رغبة الدولة في تعزيز التعايش المشترك بين المكونات المختلفة للمجتمع الإريتري، ويمنح كل مجموعة عرقية ولغوية مساحة للتعبير عن ذاتها. في هذا المقال، نستعرض تفاصيل هذا النهج المميز، ونتناول اللغات الأكثر استخدامًا، والسياسات التعليمية، والأنظمة الكتابية، بالإضافة إلى تأثير اللغات الأجنبية والاستعمارية، وذلك لفهم أعمق لمشهد اللغة في إريتريا.

عدم اعتماد لغة رسمية: توجه فريد ومقصود

على خلاف معظم دول العالم، لم تعتمد إريتريا لغة رسمية واحدة في دساتيرها أو قوانينها. بل إن السياسة الرسمية للبلاد تُصرّح بأن جميع اللغات الوطنية التسع متساوية، وتتمتع بالاحترام نفسه في مجالات التعليم، والإدارة، والإعلام. هذا القرار ليس اعتباطيًا، بل جاء نتيجة تاريخ طويل من الهيمنة اللغوية التي فُرضت على الإريتريين خلال فترات الاستعمار المختلفة، سواء الإيطالي أو الإثيوبي. لذلك، تسعى الدولة اليوم إلى كسر هذا النمط، وبناء مجتمع لغوي قائم على التعددية والعدالة اللغوية.

اللغات الوطنية: تسع لغات تُعبّر عن التنوع السكاني

تشمل اللغات الوطنية في إريتريا: التيغرينية، التيغري، العربية، الساهو، البيلين، الأفار، النارا، الكنّاما، والبيجا. تنتشر هذه اللغات جغرافيًا حسب التوزيع العرقي للسكان. وتُعد التيغرينية الأكثر انتشارًا، حيث يستخدمها سكان المرتفعات ومناطق وسط البلاد، وهي أيضًا اللغة الأكثر تداولًا في الشأن الإداري غير الرسمي، رغم أنها ليست معترفًا بها كـ”رسمية”.

اللغة التيغرينية: اللغة السائدة في المشهد اليومي

يتحدث التيغرينية نحو نصف سكان البلاد، وهي تُستخدم على نطاق واسع في الإعلام والصحافة، كما تُدرّس في المدارس الأساسية في المناطق التي تتحدث بها. تتميز هذه اللغة بتراثها الغني، وتستخدم الأبجدية الجعزية (الجيئزية) في الكتابة، مما يجعلها فريدة بين اللغات الإفريقية. وعلى الرغم من عدم تبنيها رسميًا، فإن هيمنتها العملية جعلتها محور النقاشات اللغوية في البلاد.

اللغة العربية: الحضور الديني والثقافي والسياسي

العربية، رغم أن عدد المتحدثين بها كلغة أم أقل من التيغرينية، إلا أنها تلعب دورًا محوريًا في التعليم الديني، ووسائل الإعلام الرسمية، والتواصل مع الدول العربية. كما تُستخدم في البرلمان وفي البيانات الحكومية إلى جانب الإنجليزية. وهناك حضور قوي للهجات عربية محلية مثل السودانية والحجازية بين بعض القبائل الساحلية.

اللغات الأخرى: حضور محلي لا يقل أهمية

لغات مثل الساهو والبيلين والأفار تُستخدم في التعليم المحلي والإعلام الإقليمي. وتُعد هذه اللغات بمثابة عنصر هوية للمجتمعات التي تتحدث بها، حيث تنعكس فيها تقاليد وعادات تلك المجموعات. الدولة تسعى لدعم هذه اللغات من خلال تطوير مناهج دراسية باللغة الأم، وتدريب المعلمين من أبناء تلك المجتمعات.

التعليم والسياسة اللغوية: بين اللغة الأم واللغة الأجنبية

تتبنى إريتريا نظامًا تعليميًا يُركّز على استخدام اللغة الأم في السنوات الأولى من الدراسة، لضمان استيعاب الأطفال وفهمهم للمواد. بعد ذلك، تُستخدم اللغة الإنجليزية كلغة تعليمية في المرحلة الإعدادية والثانوية، لتهيئة الطلاب للانخراط في التعليم العالي وسوق العمل العالمي. هذا النموذج يُعزز من قدرة الطلاب على الحفاظ على هويتهم اللغوية، وفي الوقت ذاته يُكسبهم أدوات التواصل العالمية.

الإنجليزية: لغة التعليم والانفتاح الخارجي

تُعتبر الإنجليزية لغة التعليم الرسمية في المراحل العليا، وتُستخدم في الجامعات والمراسلات الخارجية. وهي اللغة التي تربط إريتريا بالعالم الخارجي، وخاصة في مجالات التكنولوجيا والبحث العلمي. وجود الإنجليزية في النظام التعليمي لا يضعف اللغات الوطنية، بل يُكملها ويُوفر للطلاب بوابة نحو العالمية.

الإرث الإيطالي: أثر الاستعمار اللغوي

أثرت فترة الاستعمار الإيطالي (1890–1941) بشكل كبير على اللغة في إريتريا. لا تزال بعض الكلمات الإيطالية مستخدمة في الحياة اليومية، خاصة في العاصمة أسمرة. كما توجد مدارس خاصة تُدرس باللغة الإيطالية، وتحتفظ الجالية الإيطالية الصغيرة بثقافتها ولغتها. يُعد هذا الإرث جزءًا من الفسيفساء اللغوية التي تُميز إريتريا عن جيرانها.

الأنظمة الكتابية: ثلاثة أنظمة تتعايش

تُستخدم في إريتريا ثلاثة أنظمة للكتابة: الأبجدية الجعزية (الجيئزية) للغات التيغرينية والتيغري، الأبجدية اللاتينية للغات الكوشية والنيلية الصحراوية، والأبجدية العربية للغة العربية. هذا التعدد في أنظمة الكتابة يُعكس الثراء الثقافي واللغوي للبلاد، ويُظهر مرونة المجتمع في استخدام أدوات تعبير مختلفة.

اللغة والهوية الوطنية: وحدة من خلال التنوع

النهج الذي تتبعه إريتريا في السياسة اللغوية يُمثل رسالة واضحة مفادها أن التنوع لا يتعارض مع الوحدة، بل يعززها. بفضل هذا التنوع اللغوي المدعوم بسياسات تعليمية مرنة وشاملة، نجحت إريتريا في بناء مجتمع متماسك ثقافيًا، يحترم خصوصية مكوناته ويُؤمن أن التعدد مصدر قوة وليس تهديدًا.

خاتمة: التعددية اللغوية كنموذج للتعايش

إريتريا اليوم تُعد نموذجًا فريدًا في التعامل مع التعددية اللغوية. فبدلاً من فرض لغة واحدة على الجميع، اختارت أن تمنح لكل لغة مكانها الطبيعي، وأن تعزز من تفاعل اللغات وتكاملها. هذا النموذج يُشكل تجربة تستحق التوقف عندها، خاصة في عالم يتجه نحو المركزية اللغوية. إن الحفاظ على هذا التنوع هو مسؤولية جماعية ومفتاح لبناء مستقبل متوازن ومنفتح.