اللغة الرسمية في السودان

يُعد السودان من الدول ذات الخصوصية الثقافية واللغوية الفريدة، حيث يتلاقى فيه التنوع العرقي والديني واللغوي في بوتقة واحدة. هذا التنوع لم يكن فقط عامل إثراء للحياة الثقافية والاجتماعية، بل كان أيضًا محورًا حساسًا في بناء الدولة وتحديد معالم هويتها. ومن بين القضايا التي لا تزال تُناقش على نطاق واسع هي قضية “اللغة الرسمية”، وما تمثله من انعكاس لسياسات الدولة واتجاهاتها نحو الوحدة الوطنية والاعتراف بالتعدد.

خلفية لغوية: السودان بلد التعدد

يمتلك السودان مشهدًا لغويًا غنيًا، حيث يتحدث السكان أكثر من 70 لغة أصلية، تتوزع بين أربع عائلات لغوية رئيسية هي النيلية الصحراوية، النيجر-كونغو، الأفروآسيوية، والكوشية. هذا التنوع يعكس الطبيعة المتداخلة للمجتمع السوداني، الذي يتكون من قبائل ومجتمعات ذات خلفيات لغوية وثقافية متمايزة، من النوبة في الشمال إلى البجا في الشرق والفور والزغاوة في الغرب.

اللغة العربية: السائدة رسميًا وشعبيًا

تُعد اللغة العربية الركيزة الأساسية في التواصل الرسمي في السودان، سواء على مستوى الخطاب السياسي أو الإعلام أو التعليم. يتحدث بها الغالبية العظمى من السكان، سواء كلغة أم أو لغة ثانية، وتمتد في أشكالها الفصيحة والمحكية، حيث تشتهر البلاد بالعربية السودانية، وهي لهجة محلية لها خصائصها الصوتية والمعجمية المتميزة.

الإنجليزية: بقايا الاستعمار وشريك استراتيجي

ورث السودان استخدام اللغة الإنجليزية من الحقبة الاستعمارية البريطانية، وظلت تُستخدم كلغة تعليمية وإدارية، خاصة في التعليم العالي والمراسلات الرسمية الدولية. بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل عام 2005، تم اعتماد الإنجليزية لغة رسمية إلى جانب العربية، في خطوة تعكس التوازن بين مكونات البلاد المختلفة وتُيسِّر اندماج السودان في المحيطين الإقليمي والدولي.

دستور 2005 والتعديلات اللاحقة

جاء الدستور الانتقالي لعام 2005 ليكرّس مبدأ التعدد اللغوي، فنص صراحة على أن اللغتين العربية والإنجليزية هما اللغتان الرسميتان لأعمال الحكومة القومية، كما اعترف بجميع اللغات الأصلية السودانية باعتبارها لغات قومية يجب تطويرها واحترامها. وقد استمر هذا التوجه في تعديلات لاحقة، بما في ذلك إعلان 2025 الذي شدد على دعم تعليم اللغات المحلية ضمن المناهج الدراسية.

اللغات القومية: مظلومة تاريخيًا

على الرغم من الاعتراف الرسمي بها، لا تزال اللغات المحلية مثل النوبية، التبداوية، الميدوبية، وغيرها تعاني من تهميش مؤسسي وإعلامي. لا تُستخدم هذه اللغات في المحافل الرسمية أو وسائل الإعلام الوطنية، كما لا تُدرّس بشكل فعّال في المدارس، مما يهدد اندثارها في بعض المناطق. مع ذلك، بدأت تظهر مبادرات شعبية ومؤسساتية للحفاظ على هذه اللغات من خلال الوثائق والمناهج والتعليم غير الرسمي.

اللغة والتعليم: بين الواقع والطموح

يلعب التعليم دورًا محوريًا في ترسيخ مكانة اللغة الرسمية. ففي السودان، لا يزال الجدل قائمًا حول لغة التدريس الأنسب، إذ أن اللغة العربية تُستخدم في المدارس الحكومية، بينما تعتمد المدارس الخاصة على الإنجليزية بشكل كبير. هذا التفاوت أدى إلى فجوات معرفية بين طلاب القطاعين، خاصة في التعليم العالي الذي يُدرّس بالإنجليزية بشكل شبه كامل.

التنوع اللغوي والهوية الوطنية

تُشكّل اللغة في السودان أحد أركان الهوية الوطنية الجامعة، إلا أن اعتماد العربية والإنجليزية فقط كلغتين رسميتين يثير تساؤلات حول العدالة اللغوية والشعور بالانتماء لدى المجموعات غير الناطقة بالعربية. يُنظر إلى تعزيز اللغات المحلية كمطلب ضروري لبناء دولة مدنية تعترف بكل مكوناتها الثقافية دون تمييز.

اللغة في الإعلام والثقافة

تهيمن اللغة العربية على وسائل الإعلام السودانية، من تلفزيون وإذاعة وصحف، مع وجود استخدام محدود للإنجليزية في القنوات الدولية وبعض الصحف. كما أن الإنتاج الثقافي والفني يتم بالعربية في الغالب، مما يحصر الوصول إليه لدى الفئات غير الناطقة بها. ومع تطور وسائل التواصل الاجتماعي، بدأت تظهر محاولات لتوثيق الأغاني والقصص الشعبية بلغات محلية مثل النوبية والزغاوية، في محاولة لإعادة إحياء التراث اللساني المتنوع.

التحديات المستقبلية والسياسات المقترحة

أمام السودان تحديات كبرى في إدارة التنوع اللغوي، أهمها إيجاد توازن بين لغة رسمية موحدة تسهل الإدارة والتواصل، وبين احترام التنوع الثقافي واللغوي. السياسات المقترحة تشمل إدماج اللغات المحلية تدريجيًا في مراحل التعليم الأولى، دعم المحتوى الإعلامي بعدة لغات، وتمويل بحوث لغوية لحماية اللهجات المهددة.

خاتمة

اللغة الرسمية في السودان ليست مجرد أداة تواصل، بل هي مرآة للهوية ومفتاح للوحدة الوطنية. الاعتراف بالتعدد اللغوي وتفعيله في مؤسسات الدولة ليس ترفًا، بل ضرورة لبناء مجتمع ديمقراطي شامل. ومع وعي متزايد بأهمية العدالة اللغوية، يبدو أن السودان يتجه نحو مستقبل تُحتفى فيه كل لغة كجزء من تراثه الغني والمتنوع.