تتمتع إريتريا بتاريخ طويل ومعقد، يمتد من أعماق العصور القديمة إلى صراعات الاستقلال وبناء الدولة الحديثة. على الرغم من صغر مساحتها، إلا أنها كانت دائمًا ذات أهمية استراتيجية بفضل موقعها الحيوي على البحر الأحمر، والذي جعلها مطمعًا للعديد من القوى الإقليمية والدولية. يعكس تاريخها مزيجًا فريدًا من التأثيرات الأفريقية والعربية والأوروبية، وصراعًا طويلًا بين الطموحات المحلية والهيمنة الخارجية. نستعرض في هذا المقال تطور هذا التاريخ الثري، بكل مراحله من العصور القديمة إلى واقع إريتريا اليوم.
أقسام المقال
- إريتريا في عصور ما قبل الميلاد
- دور إريتريا في مملكة أكسوم
- النفوذ الإسلامي والعثماني
- الاحتلال المصري الحديث
- الاستعمار الإيطالي وتحولات العصر الحديث
- الإدارة البريطانية ومحاولات تقرير المصير
- الضم القسري إلى إثيوبيا واندلاع الثورة
- تحقيق الاستقلال بعد حرب طويلة
- الحرب الإريترية الإثيوبية وتداعياتها
- الوضع الداخلي بعد الاستقلال
- إريتريا في المشهد الإقليمي والدولي
- الخاتمة: دولة تنحت مستقبلها رغم التحديات
إريتريا في عصور ما قبل الميلاد
تشير الحفريات الأثرية إلى وجود بشري قديم في إريتريا يمتد لعشرات الآلاف من السنين، حيث عُثر على أدوات حجرية ونقوش صخرية في مناطق مثل إمباتكا وساهل، ما يدل على حضارات بدائية سكنت هذه الأراضي منذ العصر الحجري. هذه الآثار تُبرز إريتريا كواحدة من أقدم مناطق الاستيطان البشري في منطقة القرن الأفريقي.
دور إريتريا في مملكة أكسوم
في القرون الأولى للميلاد، كانت إريتريا جزءًا من مملكة أكسوم، التي تُعد من أعظم حضارات أفريقيا القديمة. تمركزت مملكة أكسوم في شمال إثيوبيا وشرق السودان وشمال إريتريا، وكانت مدينة عدوليس الواقعة على الساحل الإريتري أحد أهم موانئها، مما جعل البلاد نقطة وصل بين أفريقيا وشبه الجزيرة العربية والهند. خلال تلك الفترة، دخلت المسيحية إلى المنطقة، وأثّرت في الثقافة والدين حتى يومنا هذا.
النفوذ الإسلامي والعثماني
مع توسع الإسلام في القرن السابع الميلادي، أصبحت سواحل إريتريا مأهولة بمسلمين من الجزيرة العربية، وأسست موانئها نقاط تواصل تجاري وثقافي مع العالم الإسلامي. لاحقًا، في القرن السادس عشر، فرض العثمانيون سيطرتهم على المنطقة الساحلية، وخاصة في مصوع وجزر دهلك، حيث أسسوا نظامًا إداريًا جديدًا. استمر هذا الوجود بشكل متقطع لعدة قرون، وترك تأثيرًا واضحًا على الثقافة المعمارية واللغوية.
الاحتلال المصري الحديث
في القرن التاسع عشر، توسعت مصر الخديوية في عهد الخديوي إسماعيل إلى الأراضي الإريترية، خصوصًا الساحل، بهدف السيطرة على طرق التجارة وتأمين موانئ البحر الأحمر. كانت هذه الفترة قصيرة نسبيًا، ولكنها أسهمت في تعزيز البنية الإدارية وتعزيز التعليم والتجارة، قبل أن تنسحب مصر لصالح الاستعمار الأوروبي.
الاستعمار الإيطالي وتحولات العصر الحديث
في عام 1890، أعلنت إيطاليا رسميًا إريتريا مستعمرة تابعة لها. استثمر الإيطاليون بكثافة في البنية التحتية، وبنوا الطرق والمصانع والموانئ، كما أنشأوا مدينة أسمرة على النمط الأوروبي، التي لا تزال حتى اليوم تتميز بطابعها المعماري الفريد. لكن في المقابل، فرضوا نظامًا استعماريًا قاسيًا قائمًا على التمييز، وأبعدوا الإريتريين عن مراكز القرار والتطور الاقتصادي الحقيقي.
الإدارة البريطانية ومحاولات تقرير المصير
عقب هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية، أصبحت إريتريا تحت الإدارة البريطانية حتى عام 1952. خلال هذه الفترة، نشأت حركات سياسية تطالب بالاستقلال أو الوحدة مع إثيوبيا أو حتى مع السودان. لكن قرار الأمم المتحدة أفضى إلى إقامة اتحاد فدرالي مع إثيوبيا، مما ولّد حالة من الاحتقان الشعبي نتيجة عدم احترام إثيوبيا للاتفاق لاحقًا.
الضم القسري إلى إثيوبيا واندلاع الثورة
في عام 1962، ألغى الإمبراطور الإثيوبي هيلا سيلاسي الحكم الذاتي الإريتري وضم البلاد رسميًا، وهو ما اعتبره الإريتريون احتلالًا. هذا القرار أشعل شرارة الثورة المسلحة التي استمرت لثلاثة عقود. بدأت جبهة التحرير الإريترية الكفاح المسلح، ولاحقًا برزت الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا كقوة رئيسية خاضت معارك طويلة ضد الجيش الإثيوبي.
تحقيق الاستقلال بعد حرب طويلة
استمرت حرب التحرير حتى سقوط نظام منغستو في إثيوبيا عام 1991، بمساعدة تحالفات مع قوى إثيوبية معارضة. في عام 1993، أُجري استفتاء شعبي بإشراف الأمم المتحدة، صوت فيه الشعب الإريتري بأغلبية ساحقة لصالح الاستقلال، وأُعلنت إريتريا دولة مستقلة ذات سيادة، بقيادة الجبهة الشعبية.
الحرب الإريترية الإثيوبية وتداعياتها
رغم الاستقلال، لم تهدأ الأوضاع، إذ اندلعت حرب حدودية مع إثيوبيا عام 1998 بسبب نزاعات على مناطق مثل بادمي. استمرت الحرب حتى عام 2000، وأدت إلى سقوط عشرات الآلاف من الضحايا. ورغم توقيع اتفاقية الجزائر لوقف إطلاق النار، استمرت حالة العداء بين البلدين حتى توقيع اتفاق سلام تاريخي عام 2018.
الوضع الداخلي بعد الاستقلال
منذ الاستقلال، تواجه إريتريا انتقادات حادة بشأن أوضاع حقوق الإنسان، بسبب غياب الانتخابات، واستمرار حالة الطوارئ، والتجنيد الإجباري المفتوح. كما تعاني البلاد من عزلة دبلوماسية دولية، خاصة بعد فرض عقوبات أممية في فترات سابقة، رغم رفعها لاحقًا. في المقابل، تبذل الدولة جهودًا في مجال التعليم والصحة والزراعة، بدعم محدود من شركاء دوليين.
إريتريا في المشهد الإقليمي والدولي
تحاول إريتريا مؤخرًا إعادة ترتيب علاقاتها الخارجية، خاصة بعد اتفاق السلام مع إثيوبيا، وتطبيع العلاقات مع جيرانها مثل السودان والصومال. كما شاركت في بعض التحالفات الإقليمية، أبرزها التدخل في اليمن ضمن التحالف العربي. ورغم انفتاحها النسبي، لا تزال البلاد محاطة بتحفظات المجتمع الدولي بشأن سياساتها الداخلية.
الخاتمة: دولة تنحت مستقبلها رغم التحديات
يبقى تاريخ إريتريا نموذجًا نادرًا لصبر الشعوب على الظلم والنضال الطويل من أجل تقرير المصير. ومع كل ما واجهته من استعمار، نزاعات، وعزلة، فإن الشعب الإريتري أظهر إرادة صلبة في بناء وطنه. المستقبل لا يزال معلقًا بقدرة الحكومة على فتح المجال السياسي، وتحقيق التنمية المستدامة، وإنهاء التجنيد الإجباري، لتبدأ إريتريا فصلًا جديدًا من تاريخها قائمًا على التعددية والاستقرار والازدهار.