يُعد العراق أحد أهم مراكز الحضارة في العالم القديم، ويمتلك تاريخًا عميقًا ومتعدد الطبقات يعكس تعاقب الحضارات والإمبراطوريات والنظم السياسية عليه منذ فجر التاريخ وحتى يومنا هذا. يمتد هذا التاريخ ليشمل إنجازات حضارية في مجالات الكتابة، الفنون، العلوم، والفكر، إلى جانب صراعات دامية وتحديات متعاقبة شكّلت هويته المعاصرة. في هذا المقال، سنأخذ جولة موسّعة عبر تاريخ العراق، مرورًا بأهم المراحل التي مرت به منذ عصور ما قبل الميلاد وحتى الوضع السياسي والاجتماعي الراهن.
أقسام المقال
العراق القديم: مهد الحضارات الإنسانية
تقع أرض العراق في قلب ما يُعرف ببلاد ما بين النهرين، وهي مهد الحضارات الإنسانية الأولى. تأسست حضارة السومريين في جنوب العراق، وبرزت مدن عظيمة مثل أور، أريدو، ولاجاش، حيث اخترع السومريون الكتابة المسمارية وسنّوا أولى القوانين، ونظموا المجتمع بطريقة متقدمة للغاية. لم تكن هذه الحضارة معزولة، بل تنافست وتكاملت مع الحضارات الأكادية والبابلية والآشورية.
مع بروز الأكديين في الشمال، نشأت أول إمبراطورية متعددة القوميات في التاريخ على يد سرجون الأكدي. ثم جاءت الحضارة البابلية التي قدمت للعالم أول تشريعات قانونية مكتوبة في عهد الملك حمورابي. أما الآشوريون، فقد توسعوا في حكمهم حتى شملوا مناطق تمتد من مصر إلى الخليج العربي، واعتمدوا القوة العسكرية والتخطيط العمراني المتطور في تأسيس إمبراطوريتهم.
العراق في العصور الإسلامية
مع دخول الإسلام إلى العراق في القرن السابع الميلادي، أصبحت المنطقة مركزًا رئيسيًا للحكم والثقافة الإسلامية. تأسست مدينة بغداد على يد الخليفة العباسي المنصور لتكون عاصمة الخلافة العباسية، وسرعان ما أصبحت المدينة منارة للعلم والحضارة. استضافت بغداد في عصرها الذهبي مكتبات عظيمة مثل بيت الحكمة، وجمعت علماء بارزين في مجالات الطب، الفلك، الفلسفة، والرياضيات.
كان العراق مركزاً للحوار الفكري والمذهبي، إذ احتضن فقهاء المذاهب الإسلامية المختلفة، مما منح البلاد عمقاً دينيًا ومعرفيًا. إلا أن الاجتياح المغولي بقيادة هولاكو عام 1258 دمّر المدينة وقتل مئات الآلاف، لينهي بذلك عهدًا من الازدهار ويبدأ مرحلة طويلة من التراجع.
العراق تحت الحكم العثماني
خضع العراق لسيطرة الدولة العثمانية بدءًا من أوائل القرن السادس عشر بعد صراع طويل مع الدولة الصفوية في إيران. تميز الحكم العثماني بطابع مركزي قوي من جهة، وبفترات من اللامركزية وظهور حكم الولايات شبه المستقلة من جهة أخرى، خصوصًا في البصرة والموصل.
عانى العراقيون من الإهمال الإداري والبنية التحتية المتردية في معظم مراحل الحكم العثماني، لكن القرن التاسع عشر شهد بعض المحاولات الإصلاحية، مثل تحسين طرق النقل وتأسيس مدارس. غير أن تلك الجهود لم تكن كافية لإنهاض البلاد اقتصاديًا أو سياسيًا، وظل العراق يعاني من التهميش داخل الدولة العثمانية حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى.
الانتداب البريطاني وتأسيس المملكة العراقية
بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وُضع العراق تحت الانتداب البريطاني بموجب اتفاقيات دولية، رغم المعارضة الشعبية لذلك. وقعت انتفاضة شعبية كبرى عام 1920 عُرفت باسم “ثورة العشرين”، وكانت من أولى صور المقاومة المنظمة ضد الاحتلال البريطاني في الوطن العربي.
استجابت بريطانيا جزئيًا لهذه الضغوط من خلال تأسيس المملكة العراقية عام 1921 وتنصيب الأمير فيصل بن الحسين ملكًا. شهدت هذه الفترة بداية بناء مؤسسات الدولة العراقية الحديثة، مثل الجيش والبرلمان، لكنها كانت أيضًا فترة اضطراب سياسي، واحتفظت بريطانيا بنفوذها من خلال معاهدات أمنية واقتصادية.
الجمهورية العراقية والانقلابات العسكرية
في عام 1958، أطاح الجيش العراقي بالنظام الملكي بقيادة عبد الكريم قاسم، لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ العراق تحت الحكم الجمهوري. تميزت هذه المرحلة بتقلبات سياسية متسارعة وانقلابات عسكرية متتالية، إذ لم يعرف العراق استقرارًا سياسيًا واضحًا حتى سبعينيات القرن العشرين.
مع وصول حزب البعث إلى الحكم عام 1968، بدأت مرحلة جديدة اتسمت بتأميم النفط عام 1972، ما منح الحكومة موارد مالية ضخمة، استُخدمت في مشاريع التنمية، لكنها أيضًا مهّدت لظهور حكم استبدادي بقيادة صدام حسين، الذي أحكم قبضته على مؤسسات الدولة وقمع المعارضة بوحشية.
غزو الكويت والعقوبات الدولية
في أغسطس 1990، قرر العراق غزو الكويت تحت ذرائع سياسية واقتصادية، مما أدى إلى تدخل عسكري دولي سريع بقيادة الولايات المتحدة. انتهت الحرب بإخراج القوات العراقية من الكويت عام 1991، لكن نتائجها كانت كارثية على العراق، إذ فرضت الأمم المتحدة عقوبات اقتصادية قاسية أضعفت البنية التحتية وتسببت في انهيار الخدمات الأساسية.
تفاقمت الأوضاع المعيشية خلال التسعينيات، وانتشر الفقر والمرض، في ظل تراجع عالمي لعلاقات العراق الدبلوماسية وازدياد عزلة النظام دوليًا. كما شهدت البلاد انتفاضات داخلية، أبرزها انتفاضة الجنوب والانتفاضات الكردية التي قُمعت بقسوة شديدة.
الغزو الأمريكي وسقوط النظام البعثي
في عام 2003، شنّت الولايات المتحدة وبريطانيا غزوًا عسكريًا على العراق تحت ادعاء امتلاك النظام لأسلحة دمار شامل. لم تُثبت صحة هذه المزاعم لاحقًا، لكن الاحتلال أدى إلى إسقاط نظام صدام حسين واحتلال البلاد بشكل مباشر.
أدى انهيار الدولة المركزية إلى فراغ أمني خطير، وانطلقت موجات من العنف الطائفي والانقسامات الداخلية. بدأ الاحتلال الأمريكي في تشكيل نظام سياسي جديد على أساس المحاصصة الطائفية، مما زاد من الانقسام المجتمعي وأضعف مؤسسات الدولة.
العراق بعد الانسحاب الأمريكي
أنهت الولايات المتحدة رسميًا وجودها العسكري في العراق عام 2011، لكن البلاد لم تنعم بالاستقرار. تدهورت الأوضاع الأمنية، وظهر تنظيم داعش في عام 2014 ليستولي على مساحات شاسعة من الأراضي العراقية، بما في ذلك الموصل، ثاني أكبر مدن البلاد.
تمكنت القوات العراقية، بدعم من التحالف الدولي، من تحرير الأراضي بحلول نهاية 2017، لكن آثار الدمار ما زالت قائمة. كما واجه العراق تحديات ضخمة في إعادة الإعمار، ومحاسبة المتورطين، وتحقيق العدالة الانتقالية.
العراق في الوقت الحاضر
اليوم، يعيش العراق واقعًا معقدًا يختلط فيه الأمل بالخوف. فرغم تعاقب الحكومات المنتخبة ومحاولات تحسين الوضع الاقتصادي، إلا أن التحديات الأمنية، والفساد المالي والإداري، ما زالت تؤرق حياة العراقيين. شهدت البلاد احتجاجات كبرى في أكتوبر 2019 مطالبة بالإصلاح الشامل، مما أسفر عن استقالة الحكومة وتغيير جزئي في النظام السياسي.
يسعى العراق في المرحلة الراهنة لاستعادة مكانته الإقليمية والدولية، وتطوير علاقاته مع دول الجوار وتحقيق توازن بين القوى الكبرى. كما تُبذل جهود لتحسين التعليم والصحة وتطوير البنية التحتية، لكن النجاح في ذلك يتطلب استقرارًا سياسيًا طويل الأمد وإرادة وطنية موحدة.