تاريخ لبنان

يتمتع لبنان بتاريخ طويل ومعقّد، يمتد من العصور القديمة حيث وُلدت الحضارات الفينيقية، إلى العصر الحديث الذي شهد تقلبات سياسية وحروبًا أهلية وأزمات اقتصادية خانقة. إن الجغرافيا المتنوعة والتركيبة الطائفية الفريدة جعلت من لبنان ساحةً للتفاعل بين القوى الإقليمية والدولية، ومسرحًا لصراعات وأحداث تركت أثرًا عميقًا في بنيته السياسية والاجتماعية. في هذا المقال، نستعرض أبرز المحطات في تاريخ لبنان، مع تسليط الضوء على تطورات كل مرحلة وما خلّفته من تأثيرات حتى يومنا هذا.

لبنان في العهد العثماني: من الإمارة إلى المتصرفية

دخل لبنان تحت الحكم العثماني في عام 1516 بعد معركة مرج دابق، وتمتع جبل لبنان بوضع إداري خاص ضمن الدولة العثمانية. أُسندت قيادة الإمارة الشهابية التي حكمت جبل لبنان لأمراء من الدروز والمسيحيين، وشهدت هذه الفترة توازنات دقيقة بين مختلف الطوائف. مع تصاعد النزاعات الطائفية في منتصف القرن التاسع عشر، خصوصًا مجازر 1860، تدخلت الدول الأوروبية وتم فرض نظام المتصرفية عام 1861، والذي جعل من جبل لبنان وحدة إدارية مستقلة نسبيًا، يحكمها متصرف غير لبناني يُعيّن من قبل السلطان العثماني ويوافق عليه ممثلو الدول الكبرى. هذا النظام مهّد لبناء مؤسسات مدنية وتعليمية شكلت البنية الأساسية لاحقًا للدولة اللبنانية الحديثة.

الانتداب الفرنسي وتأسيس دولة لبنان الكبير

بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وتفكك الدولة العثمانية، خضعت منطقة سوريا ولبنان للانتداب الفرنسي بموجب اتفاقيات دولية. في 1 سبتمبر 1920، أعلن الجنرال الفرنسي هنري غورو قيام “دولة لبنان الكبير” من قصر الصنوبر، بضم مناطق بيروت، صيدا، صور، طرابلس، البقاع، وعكار إلى جبل لبنان. هذا التوسّع الجغرافي أدى إلى نشوء مجتمع متعدد الطوائف والانتماءات، ما زاد من تعقيدات الحياة السياسية. خلال فترة الانتداب، تم تأسيس العديد من المؤسسات الإدارية والتعليمية، وتم إصدار أول دستور لبناني عام 1926، لكن السلطة بقيت بيد الفرنسيين. أتاح هذا العصر للبنان فرصة بناء الدولة، لكنه كرّس أيضًا التوزيع الطائفي في السياسة.

الاستقلال وبناء الجمهورية اللبنانية

نال لبنان استقلاله في 22 نوفمبر 1943 بعد اعتقال الفرنسيين لرئيس الجمهورية بشارة الخوري ورئيس الحكومة رياض الصلح، في خطوة أشعلت غضبًا وطنيًا لبنانيًا عارمًا. تمّ بعد ذلك وضع أسس “الميثاق الوطني”، وهو اتفاق غير مكتوب يقضي بتوزيع السلطة على أساس طائفي؛ فالرئاسة للمسيحي الماروني، ورئاسة الوزراء للمسلم السني، ورئاسة مجلس النواب للمسلم الشيعي. خلال العقود الأولى من الاستقلال، شهد لبنان ازدهارًا اقتصاديًا وثقافيًا، وبرزت بيروت كمركز مالي وتجاري في الشرق الأوسط، لكن النظام الطائفي كان بمثابة قنبلة موقوتة انفجرت لاحقًا.

الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)

تفجّرت الحرب الأهلية في 13 أبريل 1975 بعد اشتباكات بين ميليشيات مسيحية ومسلحين فلسطينيين، وتطورت سريعًا إلى نزاع شامل شمل معظم الطوائف اللبنانية. تعقّدت الأمور أكثر بتدخلات إقليمية، مثل دخول الجيش السوري إلى لبنان في 1976، وتدخل إسرائيل في الجنوب اللبناني ثم اجتياح بيروت في 1982. خلال هذه الفترة، انهارت مؤسسات الدولة وانتشرت الميليشيات، وتم ارتكاب مجازر وجرائم بحق المدنيين. استمرت الحرب حتى توقيع اتفاق الطائف في 1989، الذي نصّ على تعديل الدستور وإعادة هيكلة السلطة.

لبنان بعد الطائف: الأزمات المتكررة

شكّل اتفاق الطائف مرحلة مفصلية في تاريخ لبنان، حيث أنهى الحرب رسميًا وأعاد توزيع الصلاحيات السياسية، لا سيما تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية لصالح مجلس الوزراء. بدأت مرحلة إعادة الإعمار بقيادة رئيس الوزراء رفيق الحريري، وشهدت البلاد نهضة عمرانية واقتصادية نسبية. إلا أن التوترات السياسية لم تنتهِ، وخصوصًا بسبب الوجود السوري المستمر، والانقسام بين القوى السياسية، مما أدى إلى أزمات حكومية متكررة. اغتيال الحريري عام 2005 أعاد إشعال الساحة السياسية، وأدى إلى انسحاب القوات السورية، لكنه فتح بابًا لانقسامات داخلية أكثر حدة، خاصة بين قوى 14 آذار و8 آذار.

حرب تموز 2006 وتأثيراتها العميقة

في صيف 2006، شنّت إسرائيل حربًا مدمرة على لبنان بعد أسر حزب الله لجنديين إسرائيليين. استمرت الحرب 33 يومًا وأسفرت عن مقتل أكثر من 1200 مدني لبناني ودمار واسع في البنى التحتية، خاصة في الضاحية الجنوبية وبيروت والجنوب. رغم أن حزب الله اعتبر نتيجة الحرب “نصرًا إلهيًا”، إلا أن تداعياتها كانت كارثية على الاقتصاد اللبناني، وساهمت في تعميق الانقسام الداخلي حول دور المقاومة وسلاح حزب الله، وزادت من اعتماد لبنان على المساعدات الدولية لإعادة الإعمار.

الأزمة الاقتصادية والسياسية الراهنة

منذ عام 2019، دخل لبنان في واحدة من أسوأ أزماته الاقتصادية في تاريخه. انهار سعر صرف الليرة اللبنانية أمام الدولار، وتراجعت القدرة الشرائية للمواطنين، وأغلقت آلاف الشركات، وتوقف النظام المصرفي فعليًا. خرج اللبنانيون في احتجاجات حاشدة ضد الفساد والطائفية وسوء الإدارة، مطالبين بإسقاط الطبقة السياسية. في 2020، جاء انفجار مرفأ بيروت كضربة قاصمة، أودى بحياة أكثر من 200 شخص، ودمّر نصف العاصمة. ورغم الوعود بالإصلاح، ما زال الجمود السياسي يمنع أي تقدم حقيقي في معالجة الانهيار المالي.

الشتات اللبناني ودوره في دعم الاقتصاد والثقافة

لطالما شكّل المغتربون اللبنانيون ركيزة أساسية للاقتصاد الوطني، حيث يُقدّر عدد اللبنانيين في الخارج بأكثر من ضعف عدد السكان في الداخل. يُساهم هؤلاء بتحويلات مالية تُعتبر مصدرًا حيويًا للعملات الأجنبية، كما يحملون معهم الثقافة اللبنانية إلى أصقاع العالم، ويساهمون في تعزيز صورة لبنان العالمية. ومع تفاقم الأزمات، ازداد اعتماد الدولة على تحويلات المغتربين التي بلغت مستويات قياسية في السنوات الأخيرة.

آفاق المستقبل: تحديات وفرص

يحمل المستقبل اللبناني بين طيّاته احتمالات متناقضة: فبينما تلوح فرص لإعادة البناء والنهوض بفضل طاقات شبابه وكفاءات مغتربيه، تبقى التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية عوائق حقيقية. الإصلاحات المطلوبة ليست فقط تقنية بل هيكلية وجذرية، تتطلب إرادة سياسية حقيقية، ونبذ للطائفية، وبناء دولة قانون ومؤسسات. وحده هذا المسار كفيل بإخراج لبنان من أزماته ووضعه على طريق الاستقرار والازدهار المستدام.