في قلب شبه الجزيرة الكورية، تعيش كوريا الشمالية حالة اقتصادية وسياسية فريدة من نوعها، تنعكس بوضوح في نظامها النقدي وعملتها الرسمية “الوون الكوري الشمالي”. هذه العملة ليست مجرد وسيلة للتبادل التجاري، بل تمثل انعكاسًا مباشرًا لسياسات الانغلاق، والتحكم المركزي، والعقوبات المفروضة على البلاد. وعلى الرغم من أن الوون يُستخدم في التعاملات اليومية داخل حدود الدولة، إلا أن قيمته الحقيقية وعلاقته بالاقتصاد العالمي تثير الكثير من الجدل والتساؤلات.
أقسام المقال
تاريخ العملة في كوريا الشمالية
تعود أصول الوون الكوري الشمالي إلى عام 1947، بعد انتهاء الاحتلال الياباني، حيث تم استبدال الين الكوري بوحدة نقدية وطنية جديدة. وقد رافق ذلك تأسيس البنك المركزي لجمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية، الذي احتكر إصدار العملة. منذ ذلك الوقت، تم تعديل تصميم العملة وقيمتها عدة مرات، وكان أبرز تلك التعديلات في عام 2009، عندما أعادت الحكومة تقييم العملة بنسبة 100 إلى 1. جاءت هذه الخطوة بهدف كبح التضخم والحد من تأثير السوق السوداء، لكنها تسببت في فقدان المواطنين لمدخراتهم، ما أدى إلى موجة من الاستياء الشعبي النادر في البلاد.
الوون الكوري الشمالي في الأسواق السوداء
نظرًا للقيود الصارمة على حركة النقد وتداول العملات الأجنبية، ظهرت أسواق سوداء داخل كوريا الشمالية كمصدر بديل لتوفير العملات القابلة للتحويل مثل الدولار واليوان. وبحسب تقارير من منشقين ومصادر إخبارية، فإن سعر الصرف في السوق السوداء يختلف كثيرًا عن السعر الرسمي، ويُستخدم كمعيار حقيقي لقيمة الوون بين المواطنين. ففي حين يُعلن السعر الرسمي عند نحو 9000 وون لكل دولار أمريكي، يصل السعر في السوق السوداء إلى 15,000 أو أكثر، ما يعكس تدهورًا فعليًا في القوة الشرائية للوون.
إصدار الفئات النقدية الجديدة
سعيًا لتلبية احتياجات الاقتصاد المحلي المتضخم، أصدر البنك المركزي في كوريا الشمالية فئات نقدية كبيرة مثل ورقة 50,000 وون. وقد أثار هذا الإصدار مخاوف بشأن استمرار التضخم، خاصة مع قلة توفر هذه الفئات في الأسواق، واقتصار تداولها على الجهات الحكومية والمؤسسات الرسمية. كما أن الندرة الشديدة في النقود المعدنية تعكس ضعف التداول الفعلي وتفضيل المواطنين الاحتفاظ بالنقد الأجنبي أو المبادلة العينية.
التحديات الاقتصادية وتأثيرها على العملة
يعاني الاقتصاد الكوري الشمالي من ضغوط متعددة، تشمل العقوبات الدولية، وعزلة الأسواق، ونقص الإنتاج، واعتماد كبير على الاقتصاد غير الرسمي. كل هذه العوامل تؤدي إلى ضعف الثقة في العملة المحلية، وظهور أنظمة موازية للتبادل تقوم على الدولار واليوان، بل وحتى التبادل العيني في المناطق الريفية. كما أدى الإغلاق الصارم للحدود خلال جائحة كوفيد-19 إلى انقطاع التجارة الحدودية مع الصين، المصدر الرئيسي للعملات الأجنبية والسلع، مما زاد من الضغط على العملة المحلية.
الاعتماد على العملات الأجنبية
تشهد البلاد ظاهرة متزايدة من “الدولرة” غير الرسمية، حيث يعتمد المواطنون والتجار على العملات الأجنبية لتفادي مخاطر تقلبات الوون. وفي الأسواق المحلية، تُسعّر السلع باليوان أو الدولار، ويتم تبادل البضائع وفقًا لسعر السوق السوداء. هذا الاعتماد المتزايد على العملات الأجنبية يُضعف من قدرة الدولة على ضبط السوق ويزيد من هشاشة النظام المالي الداخلي.
العقوبات الدولية وتجميد الاحتياطات
من بين أبرز الأسباب التي تعرقل استقرار العملة الكورية الشمالية، تأتي العقوبات الاقتصادية التي فُرضت بسبب البرنامج النووي والصاروخي للبلاد. هذه العقوبات شملت تجميد أصول مالية، وفرض قيود على صادرات الفحم والمعادن، مما حرم البلاد من مصادر دخل عملات أجنبية ثابتة. وقد تسببت هذه القيود في نقص حاد بالاحتياطات الأجنبية، وهو ما جعل البنك المركزي غير قادر على دعم سعر صرف مستقر أو تلبية طلب السوق على النقد الأجنبي.
غياب الثقة ومخاوف المواطن
يعيش المواطن الكوري الشمالي حالة من الترقب والقلق الدائم حيال مستقبل العملة المحلية. فقد شهد العديد منهم خسائر فادحة في حملات إعادة التقييم السابقة، مما دفعهم إلى تحويل أموالهم إلى عملات أجنبية أو سلع قابلة للتخزين كوسيلة لحفظ القيمة. حتى أولئك الذين يحصلون على الرواتب بالوون، يسعون لتحويلها بسرعة إلى مواد غذائية أو إلكترونيات مستوردة أو يودعونها لدى تجار موثوقين للتصرف بها بالسوق.
محاولات حكومية للسيطرة
رغم كل هذه التحديات، لا تزال الحكومة الكورية الشمالية تبذل جهودًا للسيطرة على التداول النقدي. من ذلك تنظيم مراكز صرف محددة، وإجراء حملات توعية حول استخدام الوون، ومحاولة تشجيع التعاملات الرسمية عبر قسائم الدفع والمخازن المركزية. لكن في ظل ضعف الثقة وغياب الاستقرار، تبقى هذه الجهود محدودة الأثر، وتُقابل بتحايل واسع من قبل المواطنين والمستثمرين المحليين.
الاستنتاج
إن عملة كوريا الشمالية، الوون، ليست مجرد وحدة نقدية، بل هي مرآة حقيقية لحالة الدولة الاقتصادية والسياسية. في ظل عزلة دولية وتقييد داخلي، تصبح السيطرة على العملة مهمة شبه مستحيلة، وتتحول الأسواق إلى منصات موازية تتحدى سلطة الدولة. ومع استمرار الأزمات وتراجع الثقة، يبدو أن استعادة الاستقرار النقدي تتطلب إصلاحًا اقتصاديًا أعمق يتجاوز مجرد إصدار فئات جديدة أو فرض قيود على السوق السوداء.