في قلب بلاد الأرز، تتصدر المرأة اللبنانية مشهدًا معقدًا يجمع بين الحداثة والتقليد، وبين الحريات النسبية والقيود المجتمعية. لطالما كانت نساء لبنان من الأكثر تعليمًا وانفتاحًا في العالم العربي، غير أن هذا التميز لا يعكسه دائمًا حضورهن في المناصب العليا أو في مواقع صناعة القرار. من ساحات الانتفاضات إلى المسارح، ومن قاعات الجامعات إلى المعامل، تسير المرأة اللبنانية على خطى نضال طويل يزداد عمقًا وتنوعًا مع كل تحدٍّ يطرأ على الساحة المحلية.
أقسام المقال
المرأة اللبنانية في الحياة السياسية
رغم البدايات المبكرة لمنح المرأة اللبنانية حق التصويت والترشح، لا تزال المشاركة السياسية للنساء تعاني من فجوة صارخة مقارنة بالرجال. فالحكومات المتعاقبة لم تُعِر هذا الملف أولوية حقيقية، وغابت الإصلاحات التشريعية التي تكفل تمثيلًا عادلًا للمرأة. تكتفي بعض الأحزاب بتقديم مرشحات كخطوة رمزية، دون دعم فعلي لهن في الانتخابات. إلا أن السنوات الأخيرة شهدت تحركًا نسويًا أكثر تنظيمًا، إذ تشكّلت لوائح مدنية بقيادة نساء مستقلات، وبرزت أصوات تطالب بتطبيق الكوتا النسائية كوسيلة انتقالية لكسر الحاجز الذكوري المسيطر على البرلمان.
المرأة اللبنانية والتعليم والاقتصاد
يتجاوز حضور النساء في التعليم العالي في لبنان الـ60% من مجموع الطلاب الجامعيين، ما يجعل الفجوة بين التعليم وسوق العمل مثيرة للقلق. ورغم المؤهلات العالية، تعاني النساء من فجوة كبيرة في الأجور، إضافة إلى التمييز عند التوظيف، لا سيما في القطاع الخاص. وتشير التقارير إلى أن النساء غالبًا ما يُحصرن في قطاعات التعليم والصحة والخدمات، مع قلة تمثيل في القطاعات الصناعية والتقنية. هذا التوزيع يعكس موروثًا اجتماعيًا وثقافيًا ما زال يؤطر دور المرأة في قوالب نمطية. ومع ذلك، نشهد صعودًا لافتًا لرياديات أعمال لبنانيات أسسن مشاريع مبتكرة، بعضها نجح في اختراق الأسواق الإقليمية والعالمية.
المرأة اللبنانية في مواجهة العنف
يُعد العنف القائم على النوع من أكثر التحديات إلحاحًا التي تواجهها المرأة اللبنانية، خاصة في ظل غياب قوانين رادعة وشاملة. ورغم إقرار قانون حماية النساء من العنف الأسري عام 2014، إلا أن الثغرات فيه كثيرة، ولا تشمل جميع أشكال العنف. كما أن تردد الضحايا في الإبلاغ عن الانتهاكات يعود إلى نظرة المجتمع والعوائق القانونية، خصوصًا في ظل تبعية النساء للأزواج في بعض القوانين. الجمعيات الحقوقية تسعى حثيثًا لتوفير الدعم النفسي والاستشاري، وتضغط باستمرار من أجل إصلاحات قانونية تشمل العقوبات وتُحصّن الضحايا من التبعات المجتمعية والقضائية.
المرأة اللبنانية والثقافة والفنون
تشكل المرأة اللبنانية حجر الأساس في الحركة الثقافية والفنية للبلاد، فقد سطع نجم العديد من الفنانات والكاتبات والمخرجات على المستويين العربي والدولي. ويُستخدم الفن أداة مقاومة اجتماعية، حيث تتناول الأعمال الإبداعية مواضيع كالتحرر، العنف، وقضايا الجسد والهوية. المسرح النسوي في لبنان بات مساحة مفتوحة لكسر المحظورات، كما شهدنا ولادة مشاريع سينمائية لنساء تناولن قصص نساء من الطبقات المهمشة. هذا الحضور لم يأت من فراغ، بل من إرادة واعية لفرض الذات، وتوظيف الإبداع في سرد روايات موازية للتاريخ الرسمي.
المرأة اللبنانية والعمل الاجتماعي
منذ عقود، تتصدر النساء الصفوف الأمامية في المبادرات الإنسانية والاجتماعية، خصوصًا في الأزمات والكوارث. فخلال انفجار مرفأ بيروت، كانت المتطوعات أول من تواجد في الميدان، منظِّمات حملات الإغاثة، وجامعات التبرعات، ومقدمات الخدمات المباشرة للمتضررين. في المناطق الريفية، تقود النساء مبادرات بيئية وتنموية لتعزيز الاستقلال الاقتصادي للأسر، خصوصًا في ظل انهيار الخدمات الرسمية. وترتكز هذه الجهود في أغلبها على العمل الطوعي، وتفتقر للدعم المستدام، ما يطرح تحديًا حقيقيًا أمام استمرارية هذه المبادرات.
المرأة اللبنانية والتحديات المستقبلية
التحديات التي تواجهها المرأة اللبنانية اليوم تزداد تعقيدًا، خصوصًا في ظل تراجع الحريات العامة والانهيار الاقتصادي. وتحتاج المرحلة المقبلة إلى تضافر الجهود من مختلف الجهات: الدولة، المجتمع المدني، القطاع الخاص، والمنظمات الدولية. الأولوية يجب أن تُمنح لإصلاح القوانين المجحفة، وتحقيق المساواة في الحقوق المدنية، ولا سيما في قوانين الأحوال الشخصية التي تخضع لسلطة الطوائف. كما أن تمكين المرأة اقتصاديًا وسياسيًا يتطلب تغييرات بنيوية، تبدأ من المناهج الدراسية وتمر بالتربية الإعلامية، وتنتهي بقوانين عادلة تضمن العدالة وتكافؤ الفرص.
المرأة اللبنانية في الإعلام والدبلوماسية
برزت أسماء نسائية عديدة في الإعلام اللبناني، حيث باتت المرأة صوتًا قويًا في تقديم الأخبار والتحقيقات وحتى إدارة القنوات. الإعلاميات اللبنانيات لا يقتصر دورهن على الشاشة، بل يمتد إلى صناعة السياسات التحريرية. في المقابل، يشهد الحقل الدبلوماسي تطورًا في تمثيل النساء، حيث تولت بعض اللبنانيات مناصب سفراء ومندوبات في منظمات دولية. إلا أن الطريق لا يزال طويلاً لتحقيق تمثيل متوازن ومستدام.
المرأة اللبنانية والهجرة والشتات
الشتات اللبناني الذي يمتد في مختلف أصقاع العالم، يضم نساء لبنانيات ناجحات في ميادين شتى، من الطب إلى البحث العلمي، ومن ريادة الأعمال إلى السياسة. تساهم هؤلاء النساء في نقل صورة مشرقة عن بلدهن، ويربطن بين مجتمعات المهجر والوطن الأم. كما تشكل النساء المغتربات مصدر دعم مهم لعائلاتهن في لبنان من خلال التحويلات المالية، والمبادرات التنموية العابرة للحدود.