تتمتع الصين بتاريخ طويل ومعقد من التفاعل بين الأديان والثقافة والسياسة. فبين أعداد ضخمة من السكان وتنوع عرقي هائل، تبرز الصين كمشهد ديني متشعب يضم مزيجًا من الديانات التقليدية التي تنبع من جذور ثقافية محلية، إلى الأديان المستوردة التي وجدت لها موطئ قدم عبر التاريخ. رغم أن الحكومة الصينية تتبع سياسة علمانية صارمة، إلا أن الدين يحتفظ بأهمية اجتماعية وثقافية كبيرة، ويتداخل بشكل عميق مع الحياة اليومية للملايين من الصينيين. في هذا المقال سنتناول بدقة الأديان المختلفة في الصين، وأعداد أتباعها، والسياسات الحكومية المتعلقة بها، مع استعراض مفصل لحالة كل دين على حدة.
أقسام المقال
التنوع الديني في الصين
تشير أحدث الإحصاءات إلى أن الصين تضم حوالي 1.37 مليار نسمة، منهم حوالي 47.8% ينتمون إلى أديان أو معتقدات متنوعة، مع تفاوت واضح في أعداد الأتباع لكل ديانة. تُعتبر الديانة الشعبية الصينية والتي تشمل المعتقدات التقليدية كالكونفوشيوسية، والطاوية، وعادات عبادة الأسلاف، أكبر مجموعة دينية تمثل نحو 21.9% من السكان، أي حوالي 300 مليون شخص. البوذية تأتي في المرتبة الثانية بنسبة 18.2%، ويُقدّر عدد أتباعها بنحو 250 مليون نسمة، وتتوزع بين عدة طوائف منها البوذية الماهايانا السائدة في الصين، والبوذية التبتية في غرب البلاد.
المسيحية تمثل حوالي 5.1% من السكان، أي حوالي 70 مليون شخص، منها البروتستانت والكاثوليك. أما الإسلام، فينتشر بنسبة 1.8% بين سكان الصين، حيث يتركز أغلب المسلمين في قوميات الهوي والأويغور في مناطق شينجيانغ وقوانغشي، ويقدر عددهم بحوالي 25 مليون مسلم. بالإضافة إلى ذلك، هناك أقلية من أتباع ديانات أخرى مثل الهندوسية واليهودية والبهائية، لكنها تشكل نسبة ضئيلة جداً في التركيبة الدينية للبلاد.
السياسات الحكومية تجاه الأديان
تتبنى الحكومة الصينية إطارًا صارمًا لإدارة الأديان يسمى “السياسة الدينية الوطنية”، والذي يهدف إلى فرض السيطرة على النشاط الديني وتنظيمه بما يتوافق مع الأيديولوجية الحزبية للحزب الشيوعي. السياسة المعروفة باسم “السيننة” تسعى إلى دمج الأديان في الثقافة الصينية التقليدية والاشتراكية، عبر رقابة مشددة على المؤسسات الدينية، ومراقبة الأنشطة، وتعزيز الولاء الوطني والسياسي.
تفرض السلطات قيودًا على النشاط الديني خارج المؤسسات الرسمية المعترف بها، وتمنع التعليم الديني للأطفال في بعض المناطق. كما تخضع الطباعة والنشر الديني، والمواعظ، والتجمعات الدينية لمراجعة صارمة. وقد أصدرت الحكومة قوانين تضمنت غرامات وسجنًا لمن ينظم أنشطة دينية غير مرخصة، في محاولة للحد من نفوذ بعض الجماعات الدينية التي تُعتبر تهديدًا للأمن القومي.
البوذية والطاوية في الصين
البوذية، التي وصلت إلى الصين عبر طرق التجارة القديمة، تُعد واحدة من أكبر الأديان في البلاد، وتمتزج بشكل عميق مع الثقافة الصينية. تتنوع أشكال البوذية المنتشرة من الطوائف الماهايانا السائدة في المناطق الشرقية، إلى البوذية التبتية التي تمثل الروح الدينية في التبت والمنطقة المحيطة. تنتشر المعابد البوذية على نطاق واسع، وتعتبر مراكز ثقافية وروحية يزورها الملايين سنويًا.
الطاوية، التي هي ديانة فلسفية وروحية محلية، تركز على التوازن مع الطبيعة وممارسة التأمل والطقوس التقليدية. الطاوية لا تزال تحظى بشعبية خاصة في المناطق الريفية، مع وجود معابد طاوية رسمية خاضعة للرقابة الحكومية. على الرغم من ذلك، تواجه الطاوية صعوبات في مناطق معينة بسبب القيود على التنظيم الديني.
الإسلام في الصين
ينتمي المسلمون في الصين بشكل رئيسي إلى قوميتين رئيسيتين: الهوي والأويغور. الهوي مسلمون متجانسون مع الأغلبية الصينية ثقافيًا ويتواجدون في معظم المناطق الصينية، بينما الأويغور هم أقلية تركية تعيش في إقليم شينجيانغ في الغرب. تُعتبر الطائفتان من الأكثر نشاطًا دينيًا في الصين، لكنهما تتعرضان لضغوط مختلفة من قبل السلطات.
خلال السنوات الأخيرة، زادت القيود على المسلمين في شينجيانغ بشكل حاد، حيث تشمل هذه القيود إغلاق المساجد، منع التعليم الديني، وتطبيق برامج “إعادة التأهيل” التي تستهدف الحد من الممارسات الدينية. الحكومة الصينية تبرر هذه الإجراءات بأنها تهدف إلى مكافحة التطرف، بينما يوجه المجتمع الدولي انتقادات حادة لهذه السياسات، معتبرًا إياها انتهاكًا لحقوق الإنسان.
المسيحية في الصين
تشهد المسيحية نموًا ملحوظًا في الصين، خاصة بين البروتستانت الذين يشكلون القسم الأكبر من المسيحيين الصينيين. هناك كنائس رسمية معترف بها حكوميًا مثل “الحركة الوطنية الثلاثية الذاتية” للبروتستانت و”جمعية الكنيسة الكاثوليكية الصينية”، والتي تخضع لرقابة صارمة وتفرض عليها ولاءً للحزب الشيوعي.
بالمقابل، توجد “الكنائس المنزلية” التي تعمل بشكل غير رسمي وخارج الإطار القانوني، حيث يُمارس المؤمنون طقوسهم بعيدًا عن أعين السلطات. تتعرض هذه الكنائس لمضايقات مستمرة من قبل الشرطة، من إغلاق واعتقالات، خاصة في المناطق ذات النشاط المسيحي المتزايد. ورغم ذلك، تظل المسيحية أحد أسرع الأديان نموًا في الصين، لاسيما بين الشباب.
المعتقدات الشعبية والكونفوشيوسية
تُشكّل المعتقدات الشعبية الصينية والكونفوشيوسية جوهر التراث الثقافي والديني للصينيين، على الرغم من أنها لا تُعتبر ديانات رسمية بالمعنى الحديث. تقوم هذه المعتقدات على احترام الأسلاف، والاحتفال بالأعياد التقليدية، وممارسات تتعلق بالحياة اليومية مثل التقويم الصيني، والتنجيم، وعادات الزواج والوفاة.
الكونفوشيوسية، رغم أنها فلسفة أخلاقية أكثر منها ديانة، تحظى بتقدير كبير في المجتمع الصيني، حيث تؤثر على القيم الاجتماعية، النظام التعليمي، والعلاقات الأسرية. الحكومة تشجع إحياء هذه المعتقدات باعتبارها مكونًا هامًا من الهوية الوطنية، وتروج لها كجزء من “القيم الصينية التقليدية” التي تتماشى مع سياسات الحزب الشيوعي.
الأديان في المناطق ذات التركيز العرقي
تتميز بعض المناطق الصينية بتركيزات عالية من أديان معينة مرتبطة بالهوية العرقية، مثل التبت الذي يتركز فيه البوذية التبتية، ومنطقة شينجيانغ التي يتركز فيها المسلمون الأويغور. هذه المناطق تشهد توترات دينية وثقافية متزايدة بسبب اختلاف السياسات الحكومية وتطلعات هذه الأقليات للحفاظ على هوياتهم الدينية والثقافية وسط ضغوط التحديث والسيطرة السياسية.
على سبيل المثال، يُعتبر الدين البوذي التبتي جزءًا لا يتجزأ من الهوية الوطنية في التبت، ويُواجه ضغوطًا بسبب سياسات الحكومة التي تسعى للسيطرة على المؤسسات الدينية وتعيين القادة الروحيين، خاصة بعد وفاة الدالاي لاما.
الخلاصة
يمثل المشهد الديني في الصين تعقيدًا بالغًا، يجمع بين التقاليد العريقة، الأديان المستوردة، وسياسات الدولة الصارمة التي تفرض رقابة على الممارسة الدينية. في ظل تنوع ديني واسع، تفرض الحكومة قيودًا وتوجيهات صارمة توازن بها بين السماح بممارسة الأديان ومنع نشاطات تُعتبر تهديدًا سياسيًا أو أمنيًا. ومع ذلك، يستمر الدين في لعب دور اجتماعي وثقافي مهم، مما يجعل الصين نموذجًا فريدًا للعلاقة بين الدين والدولة في العصر الحديث.