الأديان في روسيا

تُعد روسيا من أكثر الدول اتساعًا وتنوعًا في العالم، ولا يقتصر هذا التنوع على الأعراق والثقافات فحسب، بل يمتد أيضًا إلى الأديان والمعتقدات. فبفضل مساحتها الجغرافية الشاسعة التي تمتد من أوروبا الشرقية إلى أقصى شرق آسيا، وانصهار العديد من الشعوب تحت لواء الاتحاد الروسي، أصبحت روسيا ساحة دينية معقدة تعكس تاريخًا طويلًا من التفاعل الديني والسياسي والثقافي. وتبرز أهمية هذا التنوع في ضوء التحديات التي تواجهها روسيا المعاصرة في إدارة هذا الإرث الديني، خصوصًا في ظل تقاطعه مع القومية والسياسة والمجتمع.

المسيحية الأرثوذكسية في روسيا

المسيحية الأرثوذكسية تُعد العمود الفقري للهوية الدينية في روسيا. تُشكّل الكنيسة الأرثوذكسية الروسية أكبر مؤسسة دينية في البلاد، وهي تحظى بدعم حكومي غير معلن لكنه ظاهر في مظاهر الحياة العامة، من المناسبات الرسمية إلى التعليم والتغطية الإعلامية. لقد أصبحت الكنيسة جزءًا من الخطاب القومي، وغالبًا ما يُنظر إليها على أنها حامية للقيم الروسية التقليدية. ومن أبرز رموز هذا التوجه هو البطريرك كيريل، الذي لعب دورًا فاعلًا في تعزيز هذا النفوذ بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. وتملك الكنيسة آلاف الأديرة والكنائس، وتُبث صلواتها على القنوات الرسمية، في انعكاس لحضورها الكبير في الوعي الجماعي الروسي.

تشير أحدث الإحصائيات إلى أن حوالي 61.8% من سكان روسيا يعتنقون المسيحية الأرثوذكسية، وهو ما يعادل نحو 89.5 مليون نسمة. وتنتشر الكنائس في كافة أنحاء البلاد، مع تركيز كبير في موسكو وسانت بطرسبورغ، كما تلعب الكنيسة دورًا في المناسبات القومية مثل عيد النصر وعيد الميلاد الروسي. كما أنها تدير شبكة واسعة من المدارس والجامعات الدينية.

الإسلام في روسيا

يتمتع الإسلام بجذور عميقة في الأراضي الروسية، تعود إلى القرن السابع الميلادي، لا سيما في المناطق الجنوبية من البلاد. المسلمون الروس، ومعظمهم من قوميتي التتار والباشكير، يُمارسون شعائرهم في أكثر من 7000 مسجد موزعة في مختلف الأقاليم، كما أن التعليم الإسلامي يشهد نموًا ملحوظًا من خلال المعاهد الدينية التي تنتشر في المناطق الإسلامية. إلى جانب ذلك، تُنظَّم شعائر الحج والعمرة سنويًا لعشرات الآلاف من المسلمين الروس، مما يدل على استمرار تمسك هذه الفئة بهويتها الدينية.

ورغم التحديات السياسية والأمنية التي تشهدها بعض الجمهوريات ذات الأغلبية المسلمة مثل الشيشان وداغستان، فإن الدولة الروسية تتبنى سياسة دعم رسمي محدود لتلك المناطق، وتُشجع القيادات الدينية المحلية الموالية للسلطة، مثل المفتيين، على لعب دور في الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي عبر خطاب ديني معتدل. ويُقدَّر عدد المسلمين في روسيا بنحو 13.8 مليون نسمة، أي حوالي 9.5% من إجمالي السكان، ويُتوقع أن ترتفع النسبة في العقود القادمة نتيجة النمو السكاني في الجمهوريات الإسلامية.

البوذية والديانات الأخرى في روسيا

رغم أن البوذية تمثل أقلية صغيرة في روسيا، فإنها تُعد من الديانات التقليدية المعترف بها رسميًا. تنتشر البوذية في ثلاث جمهوريات أساسية: كالميكيا، وبورياتيا، وتوفا، وهي مناطق يسكنها شعوب ذات أصول مغولية وتُمارس البوذية التبتية. وتتمتع هذه الديانة بدعم حكومي نسبي في جمهورياتها، حيث تُبنى المعابد والمدارس، كما تُنظَّم مهرجانات روحية وثقافية تعكس هذا البعد الديني. ويُقدَّر عدد البوذيين في روسيا بأكثر من مليون نسمة.

أما اليهودية، فرغم تناقص أعداد اليهود في روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وارتفاع معدلات الهجرة إلى إسرائيل، إلا أن الطائفة اليهودية لا تزال نشطة في موسكو وسانت بطرسبورغ ومدن أخرى. وتنتشر المعابد اليهودية والمدارس التوراتية، وتحظى الجالية اليهودية بدعم من منظمات دولية، مع وجود تمثيل ثقافي وإعلامي ملحوظ. وتشير التقديرات الحديثة إلى أن اليهود يُمثلون حوالي 0.2% من سكان روسيا، أي نحو 200 ألف نسمة.

اللا دينية والإلحاد في روسيا

الإلحاد أو عدم الانتماء الديني يُشكل ظاهرة لا يمكن تجاهلها في روسيا المعاصرة. تعود جذور هذه الظاهرة إلى الحقبة السوفيتية التي شهدت حملة شعواء ضد الأديان، حيث أُغلقت الكنائس والمساجد، وأُعيد توظيفها كمخازن أو متاحف، بينما اعتُبر الدين مجرد خرافة برجوازية. هذه الحقبة الطويلة تركت أثرًا عميقًا في وجدان المجتمع الروسي، ما أدى إلى نمو تيار لاديني خاصة بين النخب الأكاديمية وسكان المدن الكبرى.

ومع ذلك، فإن الظاهرة تشهد تراجعًا تدريجيًا في العقود الأخيرة، خصوصًا بين الأجيال الجديدة التي تعيد اكتشاف الجذور الدينية كجزء من البحث عن الهوية والانتماء. ومع عودة الدين إلى المجال العام، أصبح من الشائع رؤية طلاب الجامعات والمهنيين الشباب يحضرون الطقوس الدينية أو يتحدثون عن الإيمان في وسائل الإعلام. وتشير استطلاعات الرأي إلى أن نحو 21.2% من الروس لا ينتمون لأي دين، أي ما يُعادل 30.7 مليون نسمة، وهي نسبة تعكس درجة التنوع العقائدي في البلاد.

الإطار القانوني والديني في روسيا

ينص الدستور الروسي على حرية الدين، إلا أن التطبيق العملي يعكس تفاوتًا واضحًا في المعاملة بين الأديان. تُمنح الأديان التقليدية الأربع (الأرثوذكسية، الإسلام، اليهودية، والبوذية) وضعًا خاصًا يتيح لها الحصول على دعم رسمي وتسهيلات بيروقراطية، بينما تواجه الجماعات الدينية الأخرى، مثل شهود يهوه وبعض الكنائس الإنجيلية، صعوبات قانونية قد تصل إلى الحظر.

وقد شُهدت حملات متكررة من الأجهزة الأمنية ضد من تُعتبر معتقداتهم “طوائف أجنبية”، مما يعكس توجهًا سلطويًا في ضبط الحقل الديني. هذا الوضع دفع منظمات حقوق الإنسان إلى انتقاد السلطات الروسية لانتهاكها لمبدأ حرية المعتقد الديني. كما أن بعض التعديلات القانونية التي أُدخلت في السنوات الأخيرة تفرض قيودًا على التبشير والنشاط الديني غير المرخّص، ما يحد من قدرة بعض الجماعات على ممارسة شعائرها بحرية.

التحديات والآفاق المستقبلية للتعددية الدينية في روسيا

تُواجه روسيا اليوم عدة تحديات في إدارتها للتنوع الديني، أبرزها العلاقة المعقدة بين الدين والدولة، وتوظيف الدين لأغراض سياسية، فضلًا عن التوترات الطائفية في بعض المناطق. وقد أدى التداخل بين الدين والقومية إلى تقوية خطاب يستبعد الأقليات الدينية، ويُكرس لنمط من الهوية الدينية الأحادية.

مع ذلك، يحمل المستقبل فرصًا للتعايش الديني إن تم توجيه السياسات نحو مزيد من الحوار والتفاهم، وتعزيز الدور الثقافي والتعليمي للمؤسسات الدينية. كما أن الإنترنت ووسائل الإعلام الجديدة تفتح المجال أمام أصوات دينية متنوعة لم تكن موجودة من قبل، مما قد يُساهم في خلق مجتمع أكثر وعيًا واحترامًا لاختلافاته. ويُتوقع أن يشهد العقد القادم تزايدًا في الحراك المجتمعي نحو مزيد من المطالبة بالمساواة الدينية، خاصة من قبل الأجيال الشابة والمجتمعات المسلمة والإنجيلية.