الأديان في كوريا الشمالية

في قلب شرق آسيا، تقع كوريا الشمالية، إحدى أكثر الدول انغلاقًا على الإطلاق، حيث لا تُعرف فقط بسياساتها الصارمة ونظامها الشمولي، بل أيضًا بخصوصيتها الفريدة في التعامل مع المعتقدات الدينية. فمنذ تأسيس الدولة تحت حكم كيم إيل سونغ، تم نسج علاقة معقدة بين الدين والسياسة، حيث طغت الأيديولوجيا على كل أشكال الإيمان، وتم تحويل الزعيم إلى شخصية شبه مقدسة في نظر الشعب. هذا المقال يتناول بنظرة معمقة واقع الأديان في كوريا الشمالية، من التوزيع الديني وأبرز المعتقدات، إلى الممارسات الدينية السرية، وانتهاءً بالتأثير الهائل للأيديولوجيا الرسمية على كل مظهر من مظاهر الحياة الروحية.

التركيبة الدينية في كوريا الشمالية

رغم أن كوريا الشمالية تعلن رسميًا عن وجود حرية دينية في دستورها، إلا أن الواقع يشير إلى عكس ذلك تمامًا. تشير الإحصاءات الحديثة إلى أن أكثر من 70% من السكان لا يتبعون أي ديانة، سواء بدافع الإلحاد أو الخوف من العقاب. وتنتشر ممارسات دينية محدودة في بعض المناطق، ولكن تحت أعين المخابرات، التي تراقب كل خطوة وكل شعيرة. ومن المعروف أن من يتم ضبطه وهو يمارس طقوسًا دينية، خاصة المسيحية، قد يُزج به في معسكرات العمل القسري أو السجون.

التشوندويزم في كوريا الشمالية: الدين الوطني غير الرسمي

التشوندويزم، الذي يُعد مزيجًا من البوذية والكونفوشيوسية والعناصر الشامانية، يُعتبر الأكثر قربًا للقبول الرسمي في كوريا الشمالية. وقد تم دمج هذا الدين بطريقة خفية في الأيديولوجيا الوطنية، حيث يُستخدم لترسيخ مفاهيم الولاء والاستقلالية. يوجد حزب سياسي يُمثل هذا الدين رسميًا، ويُشارك في الجبهة الديمقراطية للتحرير الوطني. إلا أن جميع مؤسساته تحت سيطرة الدولة، ولا يُسمح له بالخروج عن الخط الأيديولوجي المرسوم. ويُلاحظ أن الحكومة تستغل هذا الدين لإظهار وجه متسامح للعالم الخارجي، رغم القمع الداخلي.

الشامانية والبوذية تحت رقابة كوريا الشمالية

الشامانية، أقدم أشكال الإيمان في شبه الجزيرة الكورية، لا تزال حاضرة في وجدان بعض السكان، خصوصًا في المناطق الجبلية والريفية. تتمثل هذه الممارسات في طقوس استدعاء الأرواح، والرقصات الدينية، والعلاجات الروحية. لكنّ السلطات الكورية الشمالية تعتبر هذه الممارسات خرافات قد تُضعف الولاء السياسي، لذا فهي تخضع للرقابة الشديدة. أما البوذية، التي كانت يومًا ما القوة الدينية المسيطرة في كوريا، فقد أصبحت الآن شبه منعدمة من حيث التأثير. يُسمح بوجود بعض المعابد لأغراض سياحية ودبلوماسية، إلا أن الرهبان يخضعون لتدريبات أيديولوجية ويُمنعون من الاتصال الحر بالمواطنين.

المسيحية في كوريا الشمالية: الإيمان المحظور

تعاني المسيحية في كوريا الشمالية من أشد أنواع القمع، إذ تُعامل كعدو للدولة. يترتب على امتلاك إنجيل أو الاجتماع للصلاة في الخفاء عقوبات شديدة قد تصل إلى الإعدام. مع ذلك، توجد شبكة من المسيحيين السريين الذين يُمارسون عباداتهم في منازلهم أو في الغابات ليلًا. تشير بعض التقديرات إلى وجود مئات الآلاف من المسيحيين، رغم غياب أي اعتراف رسمي بهم. من الجدير بالذكر أن كوريا الشمالية شهدت في الماضي نشاطًا تبشيريًا قويًا، خصوصًا في مدينة بيونغ يانغ التي كانت تُلقب بـ”أورشليم الشرق”، لكن كل هذا التاريخ تم محوه من الذاكرة الرسمية.

الأيديولوجيا الحاكمة في كوريا الشمالية كبديل للدين

تُعتبر أيديولوجيا “جوتشي” حجر الأساس للنظام الكوري الشمالي، وقد حلت محل الأديان التقليدية، بل وتفوقت عليها في القدسية. تقوم هذه العقيدة على تمجيد الزعيم كيم إيل سونغ وأبنائه باعتبارهم شخصيات شبه إلهية. تمتلئ البلاد بتماثيلهم، وتُقام الاحتفالات السنوية لولادتهم وكأنها أعياد دينية. المدارس تُدرّس كتبهم كأنها نصوص مقدسة، ويُجبر المواطنون على أداء طقوس تمجيد للزعيم يوميًا. بهذا المعنى، تحولت الدولة إلى ما يشبه مؤسسة دينية تُقدس القيادة وتُخضع الجميع لمعتقد واحد لا يُمكن المساس به.

القيود القانونية والرقابة الأمنية في كوريا الشمالية

الحديث عن حرية دينية في كوريا الشمالية غالبًا ما يكون للاستهلاك الدولي فقط. فالدستور ينص على هذه الحرية بشرط ألا تتعارض مع مصالح الدولة، وهو شرط غامض يسمح للنظام بحظر أي نشاط ديني فعلي. يُمنع تداول الكتب الدينية أو حتى امتلاك رموز الإيمان. وتوجد تقارير موثقة حول استخدام التعذيب والاحتجاز غير القانوني ضد المتدينين. وغالبًا ما يُجبر المعتقلون الدينيون على توقيع وثائق تُعلن “توبتهم”، مقابل الإفراج عنهم، أو يتم إرسالهم إلى معسكرات إصلاحية لفترات طويلة دون محاكمة.

المؤسسات الدينية الرسمية: واجهة دعائية للنظام

رغم القمع الديني، تحتفظ الحكومة ببعض المؤسسات الدينية الرسمية، مثل كنيسة بونغسو في بيونغ يانغ أو معبد بودو البوذي، والتي تُستخدم لإقناع الزوار الأجانب بوجود حرية دينية. لكن الشهادات العديدة تُشير إلى أن هذه المؤسسات مجرد ديكور فارغ. الحضور فيها غالبًا ما يكون من موظفين حكوميين مُجبرين على الظهور، والطقوس تتم وفق نصوص محددة مسبقًا. وتُحظر على المواطنين العاديين زيارة هذه الأماكن دون تصريح خاص.

العبادات السرية والهروب الروحي في كوريا الشمالية

بسبب شدة القمع، ظهرت ظاهرة “العبادات السرية”، حيث يجتمع المؤمنون خفية، يتهامسون بنصوص مقدسة، ويُمارسون طقوسهم في صمت تام، أملًا في الخلاص. وتُعد الحدود مع الصين منفذًا للهروب الروحي، حيث يقوم ناشطون بتهريب نسخ من الأناجيل والتسجيلات الدينية عبر نهر يالو. هذا النشاط محفوف بالمخاطر، لكنه يستمر بدافع الأمل. بعض اللاجئين الكوريين الشماليين الذين وصلوا إلى كوريا الجنوبية أو اليابان تحدثوا عن تحولهم للمسيحية بعد أن اختبروها في الخفاء داخل وطنهم.

الاستنتاج

إن فهم واقع الأديان في كوريا الشمالية يُظهر مدى تعقيد التوازن بين السلطة والمعتقد. فالنظام لم يكتفِ فقط بإسكات الدين، بل أنشأ بديلًا أيديولوجيًا يُفرض بالقوة. وبينما قد يبدو المشهد قاتمًا، إلا أن قصص المؤمنين الذين يُخاطرون بكل شيء من أجل معتقدهم، تكشف عن عمق الروح البشرية وقدرتها على المقاومة. تظل كوريا الشمالية واحدة من أكثر البلدان قمعًا للحريات الدينية، لكنها أيضًا موطنٌ لأشخاص يحتفظون بإيمانهم في الظلام، على أمل أن يأتي فجر الحرية.