إريتريا، تلك الدولة الصغيرة المطلة على البحر الأحمر، تشكّل واحدة من أكثر البلدان تنوعًا وغموضًا في شرق إفريقيا. رغم المساحة المحدودة، إلا أن ما تمتلكه من ثراء ثقافي، وتنوع طبيعي، وتاريخ طويل، يجعلها وجهة مثيرة للاهتمام، ليس فقط للباحثين والسياسيين، بل لكل من يهتم بفهم عمق المجتمعات الإفريقية المتعددة الأبعاد. الحياة في إريتريا تحمل في طياتها مزيجًا من الصعوبات اليومية والآمال الكبيرة، وتنبض بروح الصمود لدى شعب لا يزال يكتب فصول نضاله وتنميته بنفسه، وسط تحديات سياسية واقتصادية مستمرة.
أقسام المقال
الهوية الوطنية والتنوع الثقافي
يتكوّن المجتمع الإريتري من تسع مجموعات عرقية رسمية، من أبرزها التيغرينيا، التيغري، الساهو، الرشايدة، والبلين، ولكل مجموعة تقاليدها الفريدة التي تُمارس بكل فخر واعتزاز. رغم التعدد اللغوي والعرقي، هناك تماسك ملحوظ بفضل الدور الذي لعبه النضال من أجل الاستقلال في تعزيز الهوية الوطنية المشتركة. تُستخدم التيغرينيا والعربية كلغتين رئيسيتين، بينما تُستعمل الإنجليزية في التعليم العالي والعلاقات الدولية.
المشهد الحضري والريفي
العاصمة أسمرة تُعد من أجمل مدن شرق إفريقيا، بشوارعها النظيفة، وواجهاتها المعمارية المتأثرة بالطراز الإيطالي، ومقاهيها التي تملأ الزوايا برائحة القهوة المحمصة. يعيش سكان المدن نمط حياة يجمع بين الحداثة والتقاليد، بينما تختلف الحياة تمامًا في الأرياف حيث تعتمد المجتمعات على الزراعة والرعي. في الريف، يُعتمد على الموارد الطبيعية ومياه الأمطار، وغالبًا ما يشارك أفراد العائلة جميعًا في الزراعة، مما يُعزز التماسك الاجتماعي والتكافل العائلي.
التقاليد والاحتفالات الشعبية
تتميز الحياة الاجتماعية في إريتريا بالاحتفالات التقليدية التي تُقام في المناسبات الدينية والوطنية، مثل عيد الاستقلال في 24 مايو، وعيد الشهداء في 20 يونيو، بالإضافة إلى الأعياد الإسلامية والمسيحية. تُقام خلال هذه المناسبات عروض فنية، ورقصات شعبية، وأمسيات شعرية تُعبر عن تراث كل مجموعة. الأزياء التقليدية تلعب دورًا مهمًا في هذه المناسبات، حيث ترتدي النساء ثيابًا مطرزة يدوية تعكس الهوية الثقافية لكل مجموعة.
الاقتصاد بين التحديات والفرص
يعتمد الاقتصاد الإريتري بدرجة كبيرة على الزراعة والرعي، لكن مع جهود متزايدة لاستغلال الموارد المعدنية مثل الذهب والنحاس والزنك. بدأت شركات أجنبية عديدة الاستثمار في قطاع التعدين، خاصة في منجم “بيشا” الشهير. رغم ذلك، لا تزال القيود الحكومية والبيروقراطية تشكل عائقًا أمام نمو القطاع الخاص. تشهد إريتريا أيضًا محاولات لتنمية قطاع السياحة البيئية والتاريخية، مستفيدة من سواحلها النقية وآثارها القديمة، خاصة في مدن مثل مصوع وعيذاب.
المرأة الإريترية ودورها المحوري
المرأة في إريتريا ليست مجرد عنصر في المجتمع، بل أحد أعمدته الرئيسية. لقد لعبت دورًا بطوليًا في حرب الاستقلال، ولا تزال اليوم حاضرة بقوة في ميادين التعليم، الصحة، والعمل الحكومي. العديد من النساء الإريتريات يدرن مشاريع صغيرة في الزراعة والتجارة، ويساهمن في إعالة أسرهن بكرامة. رغم التقدم، لا تزال هناك تحديات تتعلق بالمساواة في الأجور، والتعليم في المناطق الريفية، والتمثيل السياسي الكامل.
البنية التحتية والخدمات الأساسية
إريتريا تعمل ببطء ولكن بثبات على تطوير بنيتها التحتية. رغم ضعف شبكة الكهرباء والمياه في بعض المناطق الريفية، هناك جهود حكومية لمد الشبكات وتحسين الطرق. النقل بين المدن يعتمد على الحافلات، بينما تُستخدم الدراجات النارية على نطاق واسع داخل المدن الصغيرة. كما تسعى الحكومة لتوسيع شبكة الاتصالات والإنترنت، التي لا تزال محدودة وبطيئة مقارنة بالدول المجاورة.
الصحة والتعليم: أولويات التنمية
توفر الدولة خدمات تعليمية أساسية مجانية، مع إلزامية التعليم الابتدائي. يوجد اهتمام متزايد بزيادة عدد المدارس في المناطق النائية وتدريب المعلمين. في القطاع الصحي، تُقدم الخدمات مجانًا في المستشفيات الحكومية، ويجري العمل على تحسين مكافحة الأمراض المعدية مثل الملاريا والسل. كما تُبذل جهود لرفع الوعي الصحي لدى السكان، خصوصًا في ما يتعلق بالتغذية ورعاية الأمومة.
السياسة والواقع الجيوسياسي
إريتريا تُعد واحدة من أكثر الدول انغلاقًا في العالم من الناحية السياسية، إذ لا توجد أحزاب سياسية متعددة، ولا تُعقد انتخابات عامة. الحكومة تُمارس رقابة مشددة على الإعلام، وتفرض الخدمة الوطنية بشكل إلزامي مفتوح المدة. رغم ذلك، ساهم اتفاق السلام مع إثيوبيا عام 2018 في تخفيف التوترات وفتح آفاق اقتصادية جديدة. كما تحاول الدولة تعزيز علاقاتها الخارجية خاصة مع دول الخليج والصين لأغراض اقتصادية وتنموية.
المستقبل والطموحات الشعبية
يحلم الإريتريون بمستقبل أفضل ينعمون فيه بحرية أكبر وتحسن اقتصادي ملموس. الجيل الشاب يُظهر وعيًا متزايدًا بحقوقه وطموحًا للتغيير، رغم صعوبات الهجرة والقيود الداخلية. إذا ما استطاعت الحكومة تعزيز الحوكمة والانفتاح، فقد تتحول إريتريا إلى دولة نموذجية في القرن الإفريقي، تستثمر مواردها البشرية والطبيعية بشكل مستدام.