تُعد أوكرانيا من الدول الأوروبية التي تتميز بتنوعها الديني والثقافي، حيث تنعكس تعقيدات تاريخها السياسي والجغرافي على تركيبتها الدينية المعاصرة. ورغم أن غالبية سكانها يدينون بالمسيحية، فإن التعددية الطائفية والحرية الدينية تبقى من السمات البارزة للمجتمع الأوكراني. في هذا المقال، نتناول بالتفصيل الدين الرسمي في أوكرانيا، والأديان المنتشرة فيها، والتحديات التي تواجه الحرية الدينية في ظل الظروف الجيوسياسية الراهنة، بالإضافة إلى التطورات الأخيرة في علاقة الدولة بالمؤسسات الدينية.
أقسام المقال
الدين الرسمي في أوكرانيا
لا تُقرّ أوكرانيا بدين رسمي للدولة، بل ينص دستورها على أنها دولة علمانية تضمن لجميع المواطنين الحق في حرية المعتقد وممارسة شعائرهم الدينية. المادة 35 من الدستور الأوكراني تنص صراحة على أن “الكنيسة والمؤسسات الدينية منفصلة عن الدولة”، ما يعني أن الدولة لا تدعم ولا تُمثّل أي دين بعينه. كما يُحظر فرض أي دين على المواطنين أو استخدام الدين لتحقيق أهداف سياسية.
يُعتبر هذا النهج نتيجة طبيعية للتاريخ الطويل والمعقد الذي شهدته أوكرانيا، والذي تخلله تدخلات دينية وسياسية من قوى خارجية، خاصة خلال فترات السيطرة السوفيتية، حيث كانت الحرية الدينية مقيدة بشدة. بعد استقلال أوكرانيا في عام 1991، تبنت البلاد دستورًا يرسخ لمبدأ فصل الدين عن الدولة كضمانة لحرية العقيدة.
التركيبة الدينية في أوكرانيا
تُعد المسيحية الديانة الأكثر انتشارًا في أوكرانيا، ويعتنقها أكثر من 85% من السكان، مع وجود انقسامات واضحة داخل الطيف المسيحي. أبرز هذه الانقسامات تتعلق بالكنيسة الأرثوذكسية، التي تنقسم إلى:
- الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية التابعة لبطريركية موسكو.
- الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية المستقلة، والتي نالت اعترافًا من بطريركية القسطنطينية عام 2019.
إلى جانب الأرثوذكس، توجد أيضًا نسبة من السكان يتبعون الكنيسة الكاثوليكية الأوكرانية ذات الطقس البيزنطي، إضافة إلى أقليات بروتستانتية وإنجيلية. كما يقطن أوكرانيا عدد لا بأس به من المسلمين، خاصة من تتار القرم، إلى جانب أقلية يهودية لها تاريخ طويل ومؤثر في البلاد.
المسلمون واليهود والطوائف الأخرى
يشكل المسلمون ما يقرب من 1% من سكان أوكرانيا، وتتركز أعداد كبيرة منهم في منطقة شبه جزيرة القرم، بالإضافة إلى تواجدهم في المدن الكبرى مثل كييف وأوديسا وخاركيف. تعود جذور المسلمين الأوكرانيين إلى أصول تتارية، وقد واجهوا تحديات عديدة بعد ضم روسيا للقرم عام 2014.
أما الجالية اليهودية، فرغم أنها كانت من أكبر الجاليات اليهودية في أوروبا في الماضي، إلا أن أعدادها تراجعت بشكل كبير، وتُقدّر اليوم ببضع مئات الآلاف. ومع ذلك، لا تزال لها مؤسسات دينية وثقافية فاعلة.
فصل الدين عن الدولة وموقع المؤسسات الدينية
فصل الدين عن الدولة لا يعني غياب التأثير الديني عن الحياة العامة. فالمؤسسات الدينية في أوكرانيا، خصوصًا الكنائس الأرثوذكسية، لا تزال تلعب دورًا في تشكيل الرأي العام، والتأثير على بعض القرارات السياسية. ورغم أن الدولة لا تموّل هذه المؤسسات، فإنها كثيرًا ما تدخل في صراعات قانونية معها، خاصةً عندما يتعلق الأمر بالعلاقات مع روسيا.
في عام 2024، تبنت أوكرانيا قانونًا يُقيّد أنشطة الكنائس التي ترتبط إداريًا أو ماليًا بجهات أجنبية معادية، وهو قانون اعتُبر موجّهًا للكنيسة التابعة لموسكو. ورغم أن هذا أثار جدلاً حقوقيًا، فقد بررت الدولة خطوتها بأنها إجراء لحماية السيادة والاستقلال الوطني.
التطورات الحديثة والعلاقة المتوترة مع الكنيسة الروسية
أدت الحرب الروسية الأوكرانية إلى تعميق الانقسام الديني داخل أوكرانيا. أصبحت الكنيسة الأرثوذكسية التابعة لموسكو محل جدل واسع، حيث اتُهمت بأنها تمثل ذراعًا روحيًا للكرملين داخل المجتمع الأوكراني. هذا دفع السلطات الأوكرانية إلى اتخاذ إجراءات صارمة بحقها، شملت مصادرة بعض ممتلكاتها وحظر فعالياتها في عدة مناطق.
في المقابل، لاقت الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية المستقلة دعمًا سياسيًا وشعبيًا واسعًا، باعتبارها تمثل تطلع أوكرانيا إلى استقلال روحي يوازي استقلالها السياسي. وقد أظهر استطلاع للرأي نُشر في يونيو 2025 أن نسبة كبيرة من الأوكرانيين تدعم فك الارتباط نهائيًا مع الكنيسة الروسية.
التعليم والدين في أوكرانيا
تلتزم أوكرانيا بفصل التعليم العام عن المؤسسات الدينية. لا يُسمح للكنائس بإدارة المدارس الحكومية، ولا تُدرّس الديانات كمقررات إلزامية في المدارس الرسمية. ومع ذلك، يُتاح للمؤسسات الدينية فتح مدارس خاصة أو معاهد دينية، تخضع لرقابة الدولة من حيث المناهج والمحتوى.
هذا الإجراء يهدف إلى حماية الأطفال من التلقين الديني القسري، وضمان بيئة تعليمية محايدة، ما يعكس التزام الدولة بقيم المواطنة والانفتاح الديني.
خاتمة
رغم التحديات السياسية والحروب الإقليمية، فإن أوكرانيا تبقى دولة تحترم حرية الدين والمعتقد، وتؤكد من خلال دستورها وممارساتها الرسمية على التعددية الدينية وفصل الدين عن الدولة. لا يوجد دين رسمي فيها، لكن تأثير الأديان والمذاهب المتنوعة لا يمكن إنكاره في الحياة الاجتماعية والسياسية. وبينما تسعى البلاد إلى تعزيز استقلالها الروحي بالتوازي مع تحررها من النفوذ الروسي، فإن مستقبل العلاقة بين الدين والدولة سيبقى موضع مراقبة دولية ومحلية على السواء.