الرواتب في سوريا

لا تزال قضية الرواتب في سوريا واحدة من أبرز القضايا الشائكة التي تشغل الشارع السوري، في ظل الأزمات الاقتصادية الخانقة، وتراجع قيمة العملة المحلية، وارتفاع تكاليف المعيشة إلى مستويات غير مسبوقة. ومع توالي القرارات الحكومية الخاصة بزيادة الأجور، يبقى السؤال الجوهري مطروحًا: هل تلبي هذه الرواتب حاجات المواطن اليومية؟ وهل توجد سياسات مالية قادرة على تحقيق التوازن بين الأجور والأسعار؟ في هذا المقال نتناول الصورة الشاملة لمستويات الرواتب في سوريا، وتحليلها من جوانب مختلفة تشمل القطاع العام والخاص، والمهن التعليمية، إضافة إلى الحد الأدنى والأجور الوسطية، في محاولة لرسم صورة دقيقة عن واقع السوريين في حياتهم المعيشية.

الرواتب في القطاع الحكومي السوري: زيادات غير كافية

أقرت الحكومة السورية في بداية عام 2025 زيادة كبيرة في الرواتب الأساسية لموظفي القطاع العام بلغت 400%، وهي من أكبر الزيادات في تاريخ سوريا الحديث. بموجب هذه الزيادة، ارتفعت رواتب الموظفين لتتراوح بين 1.5 مليون و3 ملايين ليرة سورية شهريًا. وعلى الرغم من أن هذا القرار جاء استجابة للضغوط الشعبية والوضع الاقتصادي المتدهور، إلا أن هذه الرواتب ما زالت لا تفي باحتياجات الأسر السورية. فالمواطن السوري اليوم يدفع مبالغ طائلة لتأمين أساسيات الحياة مثل الغذاء والدواء والكهرباء والمواصلات. ويُقدَّر الحد الأدنى لتكاليف المعيشة للأسرة المكونة من 5 أفراد بما يزيد عن 7 ملايين ليرة شهريًا، ما يجعل الرواتب الحكومية مجرد مساهمة رمزية في تغطية النفقات.

الرواتب في القطاع الخاص السوري: تفاوت وفرص محدودة

القطاع الخاص في سوريا يشهد تباينًا كبيرًا في مستويات الرواتب حسب طبيعة العمل والمجال والموقع الجغرافي. ففي حين تبدأ الرواتب في بعض الورش الصغيرة والمحلات من 300 ألف ليرة سورية شهريًا، تقدم الشركات الكبرى والمؤسسات الأجنبية الموجودة في سوريا رواتب تصل إلى 4 أو 5 ملايين ليرة في بعض الحالات الخاصة. لكن الغالبية من العاملين في القطاع الخاص يتقاضون ما بين 500 ألف إلى 1.5 مليون ليرة، وهو رقم بالكاد يكفي لتأمين الغذاء والمواصلات. كما أن طبيعة العقود في القطاع الخاص تفتقر في الغالب إلى الحماية القانونية، ما يجعل الموظف عرضة للفصل أو تقليل الأجور بشكل تعسفي. ومع تزايد البطالة وقلة الفرص، أصبح كثير من الخريجين الجدد يقبلون بوظائف بأجور زهيدة خوفًا من البقاء دون عمل.

رواتب المعلمين في سوريا: فجوة بين القطاعين العام والخاص

يعاني قطاع التعليم من تدنٍ شديد في مستوى الرواتب، خصوصًا في المدارس الحكومية. فراتب المعلم في القطاع العام يتراوح ما بين 450 إلى 600 ألف ليرة سورية شهريًا بعد الزيادات الأخيرة، ما يجعله من أدنى الرواتب على مستوى موظفي الدولة. على الجانب الآخر، تقدم بعض المدارس الخاصة، خصوصًا ذات الطابع الدولي أو التابعة لمؤسسات كبيرة، رواتب تبدأ من مليون ليرة سورية وتصل إلى أكثر من 2 مليون لبعض التخصصات أو للمعلمين من ذوي الخبرة العالية. هذه الفجوة الكبيرة دفعت كثيرًا من المعلمين للاتجاه إلى إعطاء الدروس الخصوصية كمصدر دخل إضافي أو حتى ترك الوظيفة الحكومية بالكامل.

التحديات الاقتصادية وتأثيرها على الرواتب

يتأثر واقع الرواتب في سوريا بشكل مباشر بالظروف الاقتصادية الكلية، وعلى رأسها انهيار قيمة الليرة السورية أمام الدولار، وارتفاع معدلات التضخم التي تجاوزت 150% في بعض القطاعات خلال العام الأخير. يؤدي ذلك إلى تآكل القوة الشرائية للرواتب مهما ارتفعت اسميًا. فالزيادات في الأجور عادة ما تسبقها أو تواكبها موجات غلاء في الأسعار، مما يجعل النتيجة النهائية سلبية. كما أن القيود المفروضة على الاستيراد، وارتفاع أسعار المحروقات، وانخفاض الإنتاج المحلي، كلها عوامل تسهم في زيادة تكاليف المعيشة، وبالتالي تجعل أي زيادة في الرواتب غير فعالة إذا لم ترافقها إصلاحات اقتصادية حقيقية.

الحد الأدنى والأجر المتوسط في سوريا

حتى منتصف 2025، لا يزال الحد الأدنى الرسمي للأجور في سوريا متواضعًا جدًا مقارنة بتكاليف الحياة، إذ يبلغ نحو 279,000 ليرة سورية، وهو رقم رمزي لا يعكس الواقع الفعلي. لكن فعليًا، وبعد الزيادات الأخيرة، يُعتبر أقل راتب يتقاضاه موظف حكومي يقارب 1.5 مليون ليرة سورية. أما في القطاع الخاص، فإن متوسط الأجور يختلف حسب القطاع، لكنه يدور بين 800 ألف إلى 1.2 مليون ليرة سورية شهريًا. المهن التي تتطلب مهارات عالية أو لغات أجنبية أو تخصصات تقنية عادة ما تنال رواتب أعلى، خاصة في مجالات البرمجة، المحاسبة الدولية، أو العمل مع المنظمات. ورغم ذلك، يبقى الفرق شاسعًا بين الدخل ومتطلبات الحياة اليومية.

الخطوات المستقبلية لتحسين الرواتب في سوريا

من أجل تحسين واقع الرواتب في سوريا بشكل ملموس، لا بد من اتباع سياسات اقتصادية واضحة ترتكز على تنشيط الإنتاج المحلي، وضبط الأسعار، ومحاربة الاحتكار والفساد الإداري، بالإضافة إلى تحفيز الاستثمار. كما أن استقرار سعر الصرف وتحسين الخدمات العامة (كالكهرباء والنقل والصحة) من شأنه أن يخفف الضغط عن المواطن حتى قبل رفع راتبه. يُضاف إلى ذلك ضرورة إصلاح النظام الضريبي، وإعادة هيكلة الدعم الحكومي بحيث يصل إلى مستحقيه الحقيقيين، مما يتيح رفع الأجور دون إحداث تضخم إضافي. كذلك، يُطالب خبراء الاقتصاد بإدراج الرواتب المتغيرة المرتبطة بالإنتاج أو الأداء ضمن سلم الأجور لتحفيز العاملين وزيادة دخلهم دون إرهاق خزينة الدولة.