كوريا الشمالية، الدولة الأكثر انغلاقًا في العالم، تثير الكثير من الفضول عندما يتعلق الأمر بتفاعلها مع العالم الخارجي، وخصوصًا العالم العربي. في ظل الأوضاع الجيوسياسية الصعبة والعزلة المفروضة على بيونغ يانغ، يطرح كثيرون سؤالًا مشروعًا: هل هناك وجود عربي في هذه الدولة؟ وإذا وُجد، كيف يبدو شكل هذا الوجود؟ في هذا المقال، نستعرض بتفصيل دقيق وموسع مختلف مظاهر الحضور العربي في كوريا الشمالية، من الدبلوماسية والتعليم إلى الدين والثقافة والتاريخ، مع رصد للتحديات التي يواجهها العرب هناك والفرص المستقبلية الممكنة.
أقسام المقال
البعثات الدبلوماسية العربية في كوريا الشمالية
رغم العزلة السياسية الشديدة التي تعيشها كوريا الشمالية، إلا أن بعض الدول العربية ما زالت تحتفظ بعلاقات دبلوماسية رسمية معها. من أبرز هذه الدول: مصر، سوريا، فلسطين، الجزائر، واليمن. تمتلك مصر سفارة نشطة في بيونغ يانغ، وكانت لها استثمارات اقتصادية لافتة مثل إنشاء شركة “كوريولينك” للهاتف المحمول عبر شركة أوراسكوم. أما سوريا، فهي من أقدم الشركاء السياسيين لبيونغ يانغ، وقد تبادل البلدان الدعم العسكري والسياسي منذ سبعينيات القرن الماضي.
بالنسبة لفلسطين، فإن كوريا الشمالية كانت من أوائل الدول التي اعترفت بالدولة الفلسطينية ودعمتها سياسيًا، ولديها سفير فلسطيني مقيم في بيونغ يانغ. كذلك تمتلك الجزائر واليمن تمثيلًا دبلوماسيًا جزئيًا، وإن كان نشاطه محدودًا نسبيًا. تُستخدم هذه السفارات كقنوات للتواصل الرسمي، وأحيانًا كمراكز ثقافية صغيرة لتعزيز الفهم المتبادل.
الطلاب العرب في الجامعات الكورية الشمالية
شهدت فترة السبعينيات والثمانينيات تدفقًا محدودًا لطلاب عرب إلى كوريا الشمالية، لا سيما من دول مثل سوريا واليمن وفلسطين. وقد أتيحت لهؤلاء الطلاب فرص دراسة الهندسة والعلوم العسكرية والسياسية في جامعات مثل جامعة كيم إيل سونغ. كان يتم اختيار الطلاب بعناية، ويُوفر لهم سكن جامعي تحت إشراف الدولة.
اليوم، تقلّص هذا النوع من التبادل بشكل كبير بسبب العقوبات الدولية، إلا أن بعض التقارير تشير إلى أن طلابًا من الجزائر وسوريا لا يزالون يشاركون في برامج أكاديمية أو تدريبية محددة، معظمها تحت رعاية رسمية صارمة. وتُعد تجربة هؤلاء الطلاب غنية ومليئة بالتحديات بسبب القيود المفروضة على الحركة والمعلومات، ما يمنحهم نظرة فريدة لمجتمع منغلق وغير مألوف.
المسلمون في كوريا الشمالية
كوريا الشمالية لا تعترف رسميًا بالإسلام ضمن الديانات المعتمدة، لكن رغم ذلك، هناك وجود محدود جدًا للمسلمين داخل البلاد، يتمثل غالبًا في الدبلوماسيين والطلاب الأجانب. المسجد الوحيد المعروف في كوريا الشمالية هو “مسجد الرحمن” الموجود داخل حرم السفارة الإيرانية، ويُستخدم أيضًا من قبل دبلوماسيي دول عربية مثل مصر وسوريا.
هذا المسجد الصغير لا يُفتح للعامة، وإنما يقتصر على من لديهم تصاريح دبلوماسية، ويُعد رمزًا استثنائيًا للتسامح الديني النسبي في بيئة يُهيمن عليها الفكر الاشتراكي والرقابة الدينية. من الجدير بالذكر أن السلطات الكورية الشمالية لا تعارض إقامة الشعائر الدينية داخل السفارات، طالما أنها لا تُمارس خارج حدودها.
العلاقات التاريخية بين كوريا الشمالية والدول العربية
ارتبطت كوريا الشمالية بعلاقات وثيقة مع عدد من الدول العربية خلال فترة الحرب الباردة، حيث تبنّت سياسة داعمة لحركات التحرر في العالم الثالث، خاصة في الوطن العربي. دعمت بيونغ يانغ سوريا ومصر خلال حروبها مع إسرائيل، وزوّدت تلك الدول بخبراء عسكريين ومساعدات لوجستية.
كما أقامت علاقات عسكرية وتجارية متينة مع ليبيا والعراق، وصدّرت لهم أسلحة ومعدات ثقيلة. الدعم الكوري الشمالي للثورة الفلسطينية كان بارزًا أيضًا، حيث استضافت عناصر من فصائل المقاومة الفلسطينية في الثمانينيات وقدّمت لهم التدريب العسكري والسياسي. هذه العلاقات التاريخية لا تزال تؤثر في مواقف كوريا الشمالية من بعض القضايا العربية حتى اليوم.
التبادل الثقافي والاقتصادي
بسبب العقوبات الشديدة، فإن حجم التبادل الاقتصادي بين كوريا الشمالية والدول العربية محدود جدًا، لكنه لم يختفِ تمامًا. لا تزال بعض الشركات المصرية تحافظ على علاقات تجارية منخفضة المستوى، في حين تتبادل كوريا الشمالية الهدايا الثقافية والمشاركة الرمزية في مهرجانات عربية مثل مهرجان دمشق الثقافي ومهرجانات القاهرة السينمائية سابقًا.
أما على المستوى الثقافي، فتظل المشاركة الكورية الشمالية خجولة نسبيًا، إلا أن الفرق الفنية مثل فرقة مانسويدا الاستعراضية قامت بزيارات محدودة لبعض الدول العربية لتقديم عروض موسيقية ورقصات تقليدية. هذا التبادل يُستخدم كوسيلة لإظهار الصداقة بين الشعوب دون الانخراط في علاقات تجارية واسعة.
العرب العاملون في كوريا الشمالية
رغم أن معظم المقيمين العرب في كوريا الشمالية ينتمون إلى السلك الدبلوماسي، إلا أن هناك قلة نادرة من الفنيين والمترجمين والعاملين في قطاعات الاتصال والتقنية المرتبطين بشركات أجنبية مثل أوراسكوم. يعمل هؤلاء ضمن بيئة صارمة للغاية، مع قيود على الإنترنت والتواصل الخارجي، ولكنهم في المقابل يتمتعون بمعاملة رسمية تحفظ لهم خصوصيتهم.
الجدير بالذكر أن بعض المتعاقدين العرب يتولون أدوارًا تدريبية، مثل تعليم اللغة العربية أو الإنجليزية لبعض العاملين الكوريين الشماليين في وزارة الخارجية أو الإعلام، وذلك في إطار التعاون الثقافي المحدود الذي تسمح به الحكومة.
التحديات والآفاق المستقبلية
الوجود العربي في كوريا الشمالية يواجه تحديات كثيرة، من أبرزها القيود المشددة على الحركة والتواصل، وصعوبة الوصول إلى الإنترنت والمعلومات، بالإضافة إلى الحذر الرسمي من الانفتاح الثقافي. كما أن العلاقات الاقتصادية محدودة للغاية بسبب العقوبات التي تفرضها الأمم المتحدة.
ومع ذلك، تظل هناك فرص مستقبلية إذا ما حدث تغير في سياسة كوريا الشمالية الخارجية، أو شهد العالم تحولًا نحو رفع بعض العقوبات. في هذه الحالة، يمكن للدول العربية الاستفادة من علاقاتها التاريخية مع بيونغ يانغ لتعزيز التبادل في مجالات الثقافة والتعليم والطاقة والاتصالات. وقد تلعب البعثات الدبلوماسية الحالية دورًا في بناء هذا الجسر المستقبلي، إذا ما تم دعمها بالإرادة السياسية والرؤية الاستراتيجية.