يُعدّ لبنان من أكثر الدول العربية تأثرًا وتفاعلًا مع المكوّن العربي، نظرًا لموقعه الجغرافي الرابط بين الشام والجزيرة العربية، وتاريخه العريق الممتد إلى عصور الفتح الإسلامي وما بعدها. شهد لبنان عبر قرون من الزمن تداخلات سكانية وتاريخية وثقافية مع العرب، جعلت من وجودهم جزءًا لا يتجزأ من هوية لبنان الاجتماعية والسياسية والثقافية. وإذا كان اللبنانيون أنفسهم ينحدرون من أصول عربية متنوعة، فإن وجود عشائر عربية وافدة، وجاليات عربية مقيمة، قد شكّل طبقات متراكبة من العلاقات والتفاعلات بين العرب ولبنان، وهي مسألة تستحق تسليط الضوء عليها بعمق وتفصيل.
أقسام المقال
التاريخ العربي في لبنان
بدأ الوجود العربي في لبنان مع بدايات الفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي، حيث دخلت الجيوش الإسلامية بقيادة خالد بن الوليد إلى المدن الساحلية كسيدا وصور، مرورًا بجبيل وبيروت، حتى وصلت إلى طرابلس وجبال لبنان. امتزج الفاتحون العرب مع سكان لبنان المحليين، من الموارنة والدروز والسريان، وأثّروا في الحياة الدينية والاجتماعية للمنطقة. كما أن العهد الأموي ثم العباسي شهد استقرار قبائل عربية في البقاع وجنوب لبنان، حيث نشأت قرى كاملة مأهولة بأبناء تلك القبائل، وارتبطت مناطق مثل راشيا وحاصبيا بعمق بالعروبة. وفي العصور اللاحقة، ولا سيما في العهدين المملوكي والعثماني، تواصلت موجات الاستقرار العربية في لبنان، وشكّلت في بعض الأحيان ملاذًا للقبائل الهاربة من الصراعات في الجزيرة العربية أو بلاد الشام.
العشائر العربية في لبنان
تنتشر العشائر العربية بشكل خاص في البقاع وعرسال ووادي خالد وخلدة وبعض مناطق الجنوب اللبناني، وهي عشائر ترجع أصولها إلى قبائل عربية عريقة مثل بني خالد، وعنزة، وشمر، وبني حسن. تحتفظ هذه العشائر بتقاليدها الخاصة من حيث التنظيم العشائري، والقيادة التقليدية، والعادات الاجتماعية، مثل التزاوج الداخلي وحل النزاعات بالعرف العشائري. ويبرز أبناء هذه العشائر في قطاعات متنوعة، منها الزراعة وتجارة الماشية والأعمال الحرة، كما بدأوا مؤخرًا بالانخراط في التعليم الجامعي والمجالات التقنية، ما يُظهر تحولًا تدريجيًا نحو الاندماج الاجتماعي العصري. ورغم التهميش الذي تعرضت له بعض هذه العشائر، فإن لها وزنًا انتخابيًا ملحوظًا، خاصة في الدوائر ذات الأغلبية السنية.
الجاليات العربية في لبنان
لبنان موطن لجاليات عربية كبيرة، أبرزها الجالية الفلسطينية التي تعيش في 12 مخيمًا رئيسيًا، مثل عين الحلوة والبرج الشمالي وشاتيلا. هذه الجالية، رغم ظروفها القانونية والاجتماعية الصعبة، تلعب دورًا بارزًا في الاقتصاد غير الرسمي، والتعليم المهني، وبعض المجالات الثقافية. كما تستقر جالية سورية ضخمة في لبنان، خاصة منذ اندلاع الحرب في سوريا عام 2011، ويُقدّر عددهم بأكثر من مليون نازح، ما شكّل ضغطًا ديموغرافيًا واقتصاديًا على المناطق المضيفة، وخصوصًا البقاع والشمال. الجالية العراقية، رغم صغر حجمها نسبيًا، تضم مثقفين وفنانين وناشطين، ولها حضور في المشهد الديني والثقافي الشيعي في بيروت.
الدور السياسي للعرب في لبنان
العرب في لبنان، سواء من أبناء العشائر أو الجاليات، أصبح لهم تمثيل سياسي تدريجي خلال العقود الماضية. يمثّل النائب محمد سليمان اليوم إحدى الشخصيات التي تتحدث باسم العشائر في البرلمان، خاصة عشائر وادي خالد والبقاع، وهو ما يعكس نمو دورهم في السياسة الوطنية. كذلك فإن بعض البلديات في مناطق البقاع الغربي وعرسال تُدار من قبل زعامات عشائرية، رغم محاولات المركزية الحكومية بالتضييق على نفوذها التقليدي. الجاليات، خاصة الفلسطينية، ما زالت تفتقر إلى التمثيل الرسمي، لكنها تُعبّر عن نفسها من خلال الفصائل والمنظمات المدنية، كما أن بعض الشخصيات السورية المعارضة أو المستقلة بدأت في السنوات الأخيرة في الظهور إعلاميًا.
التحديات التي تواجه العرب في لبنان
يُواجه العرب في لبنان تحديات متشابكة، تبدأ من الفقر وتهميش التنمية، ولا تنتهي عند التوترات السياسية والمذهبية. فمثلًا، تعاني مناطق مثل وادي خالد وعرسال وقرى العرقوب من نقص الخدمات، وغياب المشاريع الاستثمارية، مما يضطر شبابها للهجرة أو الانخراط في أعمال غير مستقرة. كذلك، فإن أحداث خلدة في عام 2021 بين عرب خلدة وعناصر من حزب الله، شكّلت محطة خطرة أعادت النقاش حول واقع العشائر العربية في ظل النظام الطائفي والمذهبي. كما تُواجه الجاليات العربية، خاصة الفلسطينية والسورية، قيودًا على حق التملك والعمل في العديد من القطاعات، ما يُضعف قدرتها على الاندماج والمساهمة الفعالة.
الهوية الثقافية للعرب في لبنان
يحافظ العرب في لبنان على هويتهم الثقافية من خلال اللغة، والعادات، والأزياء، والموسيقى الشعبية، والولاءات القبلية أو الوطنية. في البقاع، تُقام مهرجانات شعبية تستعرض فيها الخيول والقصائد البدوية، بينما تحيي الجاليات الفلسطينية في المخيمات المناسبات الوطنية والفلكلورية بكثافة. وفي ظل العولمة والتغيرات المجتمعية، تسعى العديد من المؤسسات الثقافية إلى توثيق تراث العرب في لبنان، مثل الجمعيات الأهلية في وادي خالد، أو المراكز الفلسطينية الثقافية في صيدا وبرج البراجنة. اللغة العربية الفصحى والعامية تظل الرابط الأهم بين هذه المجتمعات، رغم التحديات التعليمية وغياب المناهج الداعمة للتراث المحلي.
مستقبل العرب في لبنان
مستقبل العرب في لبنان مرتبط بشكل وثيق بإرادة الدولة على إدماجهم الكامل، ومبادراتهم الذاتية لتطوير مجتمعاتهم وتعزيز دورهم الوطني. إذا ما توفرت البيئة الداعمة، يمكن للعرب أن يكونوا عنصر استقرار، لا توتر، وعنصر بناء، لا تهميش. ومع تزايد الاهتمام بالشباب، والتعليم، والمشاريع الصغيرة، تنمو مؤشرات جديدة على وجود نُخب عربية لبنانية واعدة في مجالات الإعلام، والسياسة، والتعليم، والفنون. وحده التفاهم الوطني، القائم على العدالة والمساواة، هو الذي سيحمي لبنان بمكوناته كافة، ومن بينها المكوّن العربي الأصيل والفعال.