تعيش أفغانستان حالة من التحول العميق على مختلف المستويات منذ سيطرة حركة طالبان على الحكم مجددًا في أغسطس 2021. هذا التحول انعكس بقوة على البنية الاقتصادية والاجتماعية، وترك بصماته على سوق العمل بشكل واضح. في ظل هذه الظروف، أصبح العمل في أفغانستان موضوعًا بالغ الحساسية والتعقيد، حيث تتداخل الأزمات السياسية مع القيود الاجتماعية والأمنية. سنحاول في هذا المقال تقديم صورة شاملة عن واقع العمل في البلاد، استنادًا إلى أحدث البيانات والمستجدات مع تسليط الضوء على أبرز التحديات والفرص المتاحة.
أقسام المقال
سوق العمل في أفغانستان: نظرة عامة
يُقدر عدد سكان أفغانستان بأكثر من 41 مليون نسمة، يشكل الشباب دون سن الثلاثين نسبة تتجاوز 60% منهم، وهو ما يجعل التوظيف من أبرز القضايا الوطنية. ورغم هذا الزخم السكاني، يعاني الاقتصاد الأفغاني من ضعف شديد، حيث تقلص الناتج المحلي الإجمالي بشكل كبير بعد انسحاب القوات الأجنبية وتجميد الأصول المالية. فقد وصل معدل البطالة إلى مستويات مقلقة، تُقدّر رسميًا بأكثر من 16%، غير أن النسبة الحقيقية قد تكون أعلى نظرًا لانتشار العمل غير الرسمي وقلة البيانات الدقيقة. الفقر المدقع بات يشمل أكثر من 90% من السكان، بحسب تقديرات أممية، ما يزيد من الضغط على سوق العمل.
القطاعات الاقتصادية الرئيسية وفرص العمل
تتوزع فرص العمل في أفغانستان على ثلاثة قطاعات رئيسية: الزراعة، الصناعة، والخدمات. القطاع الزراعي يُعتبر الأكثر استيعابًا للأيدي العاملة، حيث يعتمد عليه نحو 70% من السكان بشكل مباشر أو غير مباشر، رغم تراجع إنتاجيته بسبب الجفاف وغياب التقنيات الحديثة. قطاع الصناعة يعاني من شلل نسبي، باستثناء بعض أنشطة التعدين والنسيج والبناء. أما قطاع الخدمات، فقد تأثر بشدة بانسحاب المنظمات الأجنبية، ولكنه لا يزال يوفر فرصًا في مجالات مثل النقل والاتصالات والتعليم الخاص. من الملفت أن العمل في التجارة المحلية يشهد انتعاشًا نسبيًا، خصوصًا في المدن الكبرى مثل كابول وقندهار، رغم التحديات الأمنية والجمركية.
المرأة وسوق العمل في أفغانستان
النساء الأفغانيات يواجهن حاليًا واحدًا من أقسى أشكال الإقصاء في العالم. فبعد أن كنَّ يشكلن نسبة مهمة من القوى العاملة في مجالات مثل الصحة والتعليم والإعلام، تم منعهن من العمل في معظم المؤسسات الحكومية والخاصة، بما في ذلك المنظمات الدولية. القرارات التي صدرت منذ أواخر 2022 حرمت آلاف النساء من مصدر رزقهن، ودمرت قطاعات حيوية كانت تعتمد عليهن. وتُظهر البيانات أن أكثر من 120 ألف امرأة فقدن وظائفهن في كابول وحدها. كما أثرت هذه الإجراءات على اقتصاد الأسر، إذ أن كثيرًا من النساء كن المعيلات الأساسيات لعائلاتهن، خاصة في ظل غياب أزواجهن أو فقدانهم.
الشباب والتحديات الوظيفية
يمثل الشباب موردًا بشريًا ضخمًا قد يحوِّل الاقتصاد لو تم استثماره بفعالية، إلا أن الواقع الحالي يعكس العكس تمامًا. التعليم الجامعي والتقني في حالة تدهور، مع إغلاق العديد من المعاهد الخاصة وتقلص الدعم الدولي للمؤسسات التعليمية. غالبية الشباب يفتقرون للتدريب المهني المناسب، ما يجعلهم غير مؤهلين للعمل في قطاعات معينة. البطالة في صفوف الشباب تصل إلى ما يقرب من 30% في بعض المناطق، وهذا ما يدفع بالكثير منهم إلى التفكير في الهجرة أو الانخراط في أعمال غير مشروعة أو الجماعات المسلحة، وهو ما يزيد من هشاشة الوضع الأمني.
المنظمات الدولية ودورها في توفير فرص العمل
رغم القيود المتزايدة، لا تزال بعض المنظمات الأممية والدولية تمارس نشاطها في أفغانستان، وإن كان بشكل محدود. تركز هذه المنظمات على مشاريع إغاثية وصحية وتعليمية في المناطق الريفية والنائية. مواقع التوظيف مثل Jobs.af وReliefWeb وUNjobs تُعلن بانتظام عن شواغر، خصوصًا في مجالات مثل تنسيق المساعدات، والتمويل، والصحة العامة. ومع ذلك، فإن تعقيدات الحصول على التصاريح، والتدخل الحكومي، والرقابة المشددة، تجعل من التوظيف في هذه المنظمات تحديًا كبيرًا. الكثير من هذه الفرص تُتاح للرجال فقط، نتيجة للقيود المفروضة على النساء.
ريادة الأعمال والعمل الحر
في ظل التقلص الكبير في الوظائف النظامية، بدأت تبرز مجالات العمل الحر وريادة الأعمال كبدائل ممكنة، خاصة في الحرف اليدوية، والتجارة الإلكترونية، والمشاريع المنزلية الصغيرة. الكثير من النساء والرجال باتوا يعتمدون على الإنترنت لتسويق منتجاتهم أو تقديم خدمات رقمية مثل الترجمة، والتصميم، والتدريب عن بعد. منصات مثل فيسبوك وتلغرام أصبحت أسواقًا حيوية للتجارة الفردية. ومع ذلك، فإن ضعف البنية التحتية للاتصالات، وغياب أنظمة الدفع الإلكتروني، تمثل عوائق كبيرة أمام نمو هذا النمط من الاقتصاد.
آفاق مستقبلية لسوق العمل في أفغانستان
تعتمد الآفاق المستقبلية للعمل في أفغانستان على مجموعة من العوامل المتداخلة، أبرزها الاعتراف الدولي بالنظام الحاكم، ورفع العقوبات، وعودة الاستثمارات. تحسين بيئة الأعمال، وتخفيف القيود على النساء، وتعزيز التعليم والتدريب المهني، يُمكن أن يُحدث فرقًا جذريًا في الوضع الاقتصادي. بدون هذه الإصلاحات، سيبقى سوق العمل هشًا، وستتفاقم أزمة البطالة والفقر والهجرة القسرية. التغيير يحتاج إلى إرادة سياسية داخلية وتعاون دولي واسع، وهو أمر لم تتضح ملامحه بعد بشكل حاسم.