العمل في تونس

في ظل التغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها تونس منذ سنوات، يُعد سوق العمل من أبرز القضايا التي تشغل الرأي العام والحكومة على حد سواء. تواجه تونس تحديات حقيقية في مجال التشغيل، خاصة في ظل ارتفاع نسب البطالة وتعقيد آليات النفاذ إلى فرص العمل، وغياب المواءمة بين التعليم وسوق الشغل. تشير المعطيات إلى استمرار الفجوة بين العرض والطلب على الوظائف، مما يفرض على الدولة والمجتمع المدني والقطاع الخاص التعاون لإحداث نقلة نوعية في مجال التشغيل.

مؤشرات البطالة في تونس: أرقام مقلقة وتفاوتات إقليمية

تُظهر آخر الإحصائيات أن معدل البطالة في تونس بلغ حوالي 16% في بداية 2025، وهي نسبة مرتفعة مقارنة بالمعدلات العالمية. اللافت أن هذه النسبة تشهد تفاوتًا كبيرًا بين الولايات؛ حيث تتجاوز 30% في مناطق مثل القصرين وسيدي بوزيد، مقابل نسب أقل في العاصمة وصفاقس. كما تزداد حدة البطالة بين النساء لتتجاوز 21%، وبين حاملي الشهادات الجامعية بنسبة تقارب 25%. هذه الأرقام تعكس هشاشة المنظومة التشغيلية والحاجة إلى إصلاحات عميقة.

سوق العمل غير المنظم: الاقتصاد الموازي كواقع بديل

ما يزيد من تعقيد الوضع أن عددًا كبيرًا من التونسيين يعملون في الاقتصاد الموازي أو ما يعرف بالقطاع غير المنظم، والذي لا يخضع للرقابة الجبائية ولا يوفر تغطية اجتماعية للعاملين فيه. تشير تقديرات إلى أن أكثر من 40% من اليد العاملة في تونس تنشط في هذا القطاع، مما يحرمهم من الاستقرار الوظيفي والضمانات الاجتماعية، ويؤثر سلبًا على خزينة الدولة.

القطاعات الاقتصادية وفرص التشغيل المستقبلية

رغم التحديات، إلا أن هناك قطاعات تحمل آفاقًا واعدة للتشغيل، أبرزها:

  • تكنولوجيا المعلومات: حيث ازدهر قطاع البرمجيات وخدمات التعهيد، وأصبح يجذب استثمارات أجنبية متزايدة.
  • الطاقة المتجددة: بسبب توجه الدولة نحو الانتقال الطاقي، مما يخلق طلبًا على المهندسين والفنيين.
  • السياحة البديلة: وخاصة السياحة البيئية والثقافية، والتي بدأت تكتسب اهتمامًا من المستثمرين المحليين والدوليين.

الاستراتيجيات الحكومية لدعم التشغيل

أطلقت الحكومة التونسية عدة برامج ومبادرات من بينها “برنامج عقد الكرامة” و”آلية دعم المبادرة الخاصة” و”صندوق التشغيل الجهوي”. تهدف هذه البرامج إلى دعم إدماج الشباب والنساء في سوق العمل، وتقديم حوافز للمؤسسات لتوظيف العاطلين عن العمل، بالإضافة إلى تشجيع ريادة الأعمال والمشاريع الصغرى.

التكوين المهني: أداة فعالة لكنها غير مستغلة بالكامل

يُعتبر التكوين المهني أحد أبرز المفاتيح لمعالجة اختلالات سوق الشغل، إذ يوفّر تكوينًا تقنيًا ومهنيًا يُقرب المتخرج من متطلبات السوق. ومع ذلك، لا تزال نسبة الإقبال عليه ضعيفة مقارنة بالتعليم الجامعي، رغم أن خريجيه يجدون فرص عمل أسرع. تحتاج الدولة إلى مزيد من الترويج لمسارات التكوين المهني، وربطها بالقطاع الخاص لتقديم تكوينات عملية ومواكبة.

دور ريادة الأعمال والمؤسسات الناشئة

برز في السنوات الأخيرة جيل جديد من الشباب التونسي يتجه نحو ريادة الأعمال، خاصة في مجالات التكنولوجيا والخدمات، مدفوعًا بصعوبة النفاذ إلى الوظائف الكلاسيكية. ساهمت حاضنات الأعمال ومراكز الابتكار في احتضان مشاريع ريادية مبتكرة، رغم ما يواجهه أصحابها من مشاكل التمويل والتسويق. يُعد دعم هذا التوجه أداة فعالة في خلق الثروة وفرص العمل.

مساهمة المرأة في سوق العمل: بين الطموح والعراقيل

رغم أن المرأة التونسية تتمتع بحقوق قانونية متقدمة، إلا أن مساهمتها الفعلية في سوق العمل لا تزال محدودة. تعاني النساء من صعوبات في التشغيل بسبب الأدوار الاجتماعية والتقاليد، فضلًا عن ضعف البنية التحتية الداعمة مثل رياض الأطفال والنقل الآمن. تحتاج السياسات التشغيلية إلى أن تأخذ بعين الاعتبار خصوصية النساء وتوفر شروطًا مناسبة لإدماجهن الفعّال.

التحول الرقمي وسوق العمل

فرض التحول الرقمي واقعًا جديدًا على سوق العمل، حيث بدأت بعض الوظائف التقليدية في التلاشي، وظهرت أخرى تتطلب مهارات جديدة مثل تحليل البيانات، التسويق الرقمي، والعمل عن بُعد. تحتاج تونس إلى تسريع وتيرة الرقمنة، وربط المناهج التعليمية بمهارات المستقبل، لتفادي اتساع فجوة البطالة التقنية.

خاتمة: خطوات ضرورية لبناء سوق عمل مستقر

لا يمكن معالجة معضلة البطالة في تونس دون مقاربة شاملة تقوم على إصلاح منظومة التعليم، تطوير البنية التحتية الاقتصادية، تعزيز الاستثمار، وتكثيف الشراكة بين الدولة والقطاع الخاص. إن تحقيق سوق عمل نشط ومتين ليس فقط ضرورة اقتصادية، بل هو حجر أساس لضمان استقرار اجتماعي وسياسي مستدام في البلاد.