يمر سوق العمل في لبنان بمرحلة دقيقة من التحول والتأقلم مع واقع اقتصادي واجتماعي ضاغط يتأرجح بين تحديات مزمنة وفرص جديدة ناشئة. فبعد سنوات من الأزمات المالية والسياسية والصحية، باتت ملامح سوق العمل تتغير بوتيرة متسارعة، حيث يبحث اللبنانيون عن منافذ للاستقرار الوظيفي والمعيشي وسط دوامة الانهيار النقدي وغلاء المعيشة وتآكل الرواتب. ورغم الصورة القاتمة في بعض الجوانب، فإن المؤشرات توحي بإمكانية حدوث نقلة نوعية إذا ما استثمرت الدولة والقطاع الخاص بذكاء في الطاقات الوطنية والقطاعات الواعدة.
أقسام المقال
الوضع الاقتصادي وتأثيره على سوق العمل في لبنان
الأزمة الاقتصادية التي يعيشها لبنان منذ عام 2019 ألقت بظلالها الثقيلة على كافة مناحي الحياة، وكانت سوق العمل من أكثر المتضررين. فقد فقد آلاف الموظفين وظائفهم، بينما تم تقليص أجور من تبقى منهم بشكل قاسٍ نتيجة انهيار قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار، ما دفع عدداً كبيراً من العمال إلى القبول بوظائف بأجور زهيدة أو العمل في مهن لا تتوافق مع مؤهلاتهم. هذا الواقع أسفر عن حالة من عدم الاستقرار المهني، كما زاد من معدلات الفقر التي تجاوزت 75% وفق تقارير محلية، ما أضعف قدرة المواطنين على الاستهلاك، وأثر بدوره سلباً على حركة السوق والطلب على العمالة.
معدلات البطالة وتحديات العمالة في لبنان
في عام 2025، تشير التقديرات إلى أن معدلات البطالة لا تزال مرتفعة، مع تزايد كبير في بطالة خريجي الجامعات الذين يشكلون جزءاً كبيراً من قوة العمل. يُلاحظ أن عدداً كبيراً من الشباب إما ينتظر فرصة عمل غير متاحة أو يخطط للهجرة، وهو ما أدى إلى هجرة جماعية للكفاءات، خاصة في قطاعي الصحة والهندسة. كذلك فإن الاقتصاد غير الرسمي آخذ في التوسع، حيث يعمل عدد كبير من اللبنانيين في وظائف لا توفر أي حماية اجتماعية أو ضمانات قانونية، مما يفاقم من هشاشة سوق العمل.
القطاعات الواعدة وفرص العمل المستقبلية في لبنان
رغم الصعوبات القائمة، بدأت بعض القطاعات تبدي قدرة نسبية على الصمود بل والنمو، مشكّلة بارقة أمل لعشرات الآلاف من الباحثين عن عمل. قطاع التكنولوجيا يُعد من أكثر المجالات الواعدة، حيث تنشط شركات ناشئة لبنانية في مجالات البرمجة والخدمات الرقمية، حتى باتت تُصدِّر مهاراتها إلى الخارج. كذلك قطاع الخدمات الطبية والتمريضية يشهد طلباً متزايداً محلياً وعربياً، الأمر الذي يفتح المجال أمام التوظيف المدعوم بالتدريب والتأهيل. كما أن قطاعي الطاقة الشمسية وإعادة التدوير باتا محط اهتمام نظراً للاعتماد المتزايد على حلول بديلة في ظل انهيار الخدمات العامة.
جهود الحكومة والإصلاحات المرتقبة في لبنان
أطلقت الحكومة اللبنانية بالتعاون مع منظمات دولية عدداً من المبادرات التي تهدف إلى دعم التوظيف وتحفيز الاقتصاد. من بين هذه المبادرات برامج تمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة، التي تمثل العمود الفقري للاقتصاد اللبناني، إضافة إلى دعم التعليم المهني والتقني وتطويره بما يتماشى مع متطلبات السوق. كما تم إطلاق منصات إلكترونية لتسهيل التوظيف والتشبيك بين أصحاب العمل والكفاءات. ومن أبرز الوعود الحكومية أيضاً السعي لتحسين مناخ الأعمال من خلال قوانين ضريبية جديدة وتبسيط الإجراءات الإدارية.
العمالة الأجنبية ودورها في سوق العمل اللبناني
يلعب العمال الأجانب، خصوصاً من الجنسيات السورية والبنغلادشية والإثيوبية، دوراً محورياً في قطاعات مثل البناء والتنظيف والمساعدة المنزلية. إلا أن وجودهم، رغم ضرورته في بعض القطاعات، يثير جدلاً في الشارع اللبناني، خصوصاً في ظل المنافسة المتزايدة على فرص العمل. تسعى السلطات إلى تنظيم هذه العمالة من خلال تشريعات واضحة تضمن عدم الاستغلال من جهة، وتوفير أفضلية نسبية للبنانيين في التوظيف من جهة أخرى. كما يتم التفكير بفرض رسوم إضافية على الشركات التي تعتمد بشكل كبير على العمالة الأجنبية دون تدريب أو تشغيل لبنانيين.
التحديات المستقبلية وآفاق سوق العمل في لبنان
من أبرز التحديات التي تواجه سوق العمل في السنوات المقبلة: ضعف الثقة بالمؤسسات، وغياب الاستقرار السياسي، وتراجع الاستثمار الداخلي والخارجي. إلى جانب ذلك، تبرز مشكلة الفجوة بين النظام التعليمي واحتياجات السوق، حيث تُنتج الجامعات كفاءات لا تجد لها موقعاً في الاقتصاد الحقيقي. في المقابل، هناك فرص حقيقية للنهوض إذا تم اعتماد سياسة تشغيلية وطنية شاملة تراعي الواقع وتستشرف المستقبل، مع ضرورة استثمار الطاقات الشبابية في الابتكار وريادة الأعمال، وربط الخريجين بمشاريع إنتاجية ملموسة.
القطاع غير الرسمي والعمل الحر
يتزايد الاعتماد على العمل الحر والمنصات الرقمية لتوليد الدخل في لبنان، خصوصاً بين فئة الشباب الذين يمتلكون مهارات تقنية أو لغوية. ومع تراجع فرص العمل التقليدية، أصبح العديد من اللبنانيين يعتمدون على أعمال حرة في مجالات الترجمة، التصميم، التسويق الإلكتروني، والتدريب عن بعد. هذا التحول يوفر مرونة وفرصاً للاستقلال المالي، لكنه أيضاً محفوف بالمخاطر مثل غياب الاستقرار الوظيفي والتأمين الصحي. لذلك من المهم أن تسعى الحكومة لتشريع وتنظيم هذا النوع من الأعمال وتوفير بيئة آمنة له.
خاتمة
يبقى العمل في لبنان لعام 2025 ملفاً مفتوحاً على احتمالات متعددة، تتراوح بين استمرار الأزمة أو بزوغ مرحلة جديدة من التعافي. التحديات جسيمة لكنها ليست مستحيلة التجاوز، والمفتاح يكمن في الجمع بين الإرادة السياسية، والإصلاح الاقتصادي، والاعتماد على الموارد البشرية اللبنانية المميزة. إن تعزيز الإنتاج، وتحسين التعليم المهني، واحتضان المبادرات الشبابية، قد تشكل اللبنات الأولى لبناء سوق عمل أكثر عدلاً واستقراراً، يعيد الأمل لشباب لبنان بمستقبل يليق بطموحاتهم.