اللغة الرسمية في أوكرانيا

تلعب اللغة الرسمية دورًا حاسمًا في رسم ملامح الهوية الثقافية والوطنية لأي بلد، وفي الحالة الأوكرانية، أصبحت اللغة أداة مقاومة وحماية للسيادة أمام ضغوط سياسية وهويات بديلة. تعيش أوكرانيا مرحلة حساسة في تاريخها، حيث تتقاطع قضايا اللغة مع السياسات الداخلية والخارجية، وتُستخدم كوسيلة لتثبيت الوعي القومي ومواجهة التدخلات الروسية. في هذا المقال، نُسلط الضوء على تطور اللغة الرسمية في أوكرانيا، والجهود الحكومية والشعبية لترسيخها، مع توضيح التحديات التي تواجهها، لا سيما في ظل النزاعات الجيوسياسية الحالية.

اللغة الأوكرانية هي اللغة الرسمية الوحيدة في أوكرانيا

نص الدستور الأوكراني، وتحديدًا المادة العاشرة، على أن اللغة الأوكرانية هي اللغة الرسمية الوحيدة في الدولة. وهذا يعني أن مؤسسات الدولة مُلزمة باستخدام الأوكرانية في أنشطتها كافة، من التعليم إلى الإعلام، ومن القضاء إلى السياسة. هذا الوضع القانوني جاء نتيجة لعقود من محاولات طمس الهوية الأوكرانية، خاصة خلال الحقبة السوفيتية، حين فُرضت الروسية كلغة هيمنة.

ورغم أن اللغة الروسية ما تزال تُستخدم في بعض المناطق الجنوبية والشرقية، فإن النسبة الأكبر من السكان باتت تفضل استخدام الأوكرانية، خصوصًا في ظل الحرب الروسية الأوكرانية التي عمّقت الوعي الشعبي بأهمية اللغة كدرع ثقافي. تُعتبر اللغة اليوم أحد رموز المقاومة، وتُستخدم في الأغاني والمسرحيات وحتى في الحملات الدعائية لدعم الجبهة الداخلية.

ارتفاع نسبة الناطقين بالأوكرانية بشكل ملحوظ

تشير استطلاعات الرأي الحديثة إلى أن نسبة الأوكرانيين الذين يعتبرون الأوكرانية لغتهم الأم ارتفعت من حوالي 77% في عام 2021 إلى أكثر من 87% في عام 2024. هذا الارتفاع لا يعود فقط إلى سياسات الدولة، بل أيضًا إلى تحول في الوعي الجماعي، حيث باتت اللغة الأوكرانية تُعبّر عن الموقف السياسي والانتماء الوطني.

كما بدأ مواطنون في مناطق ناطقة بالروسية سابقًا، مثل خاركيف ودنيبرو، بتعليم أبنائهم اللغة الأوكرانية أولًا، والتحدث بها في البيت، كرد فعل طبيعي على العدوان الروسي. هذا التحول العميق في الاستخدام اليومي للغة يُعد من أقوى مؤشرات نجاح الدولة في سياساتها اللغوية الوطنية.

قانون حماية اللغة الأوكرانية وتنفيذه الفعلي

في عام 2019، دخل حيز التنفيذ قانون “ضمان عمل اللغة الأوكرانية كلغة الدولة”، الذي يُعد من أكثر التشريعات اللغوية صرامة في أوروبا الشرقية. ينص القانون على إلزامية استخدام الأوكرانية في جميع مؤسسات الدولة، ويفرض غرامات مالية على من يخالفه، خصوصًا في القطاعات الخدمية والإعلامية والتعليمية.

منذ تنفيذ القانون، تم تعيين مفوض حكومي يُعنى بحماية اللغة، وتلقت الدولة آلاف الشكاوى بخصوص استخدام لغات أجنبية في مؤسسات عامة وخاصة. في عام 2025 وحده، تم فرض أكثر من 200 غرامة على مخالفين للقانون، كما أُجبر عدد من الشركات والمؤسسات الإعلامية على تعديل سياساتها لتكون متوافقة مع القوانين.

دور اللغة الأوكرانية في المدارس والجامعات

شهد النظام التعليمي في أوكرانيا تحولًا كبيرًا لصالح اللغة الرسمية. في العام الدراسي الحالي، تُدرّس الأوكرانية في أكثر من 99% من المدارس، وأُلغيت تقريبًا جميع المدارس التي كانت تُدرّس باللغة الروسية. حتى الجامعات بدأت في تقديم التخصصات باللغة الأوكرانية بشكل إلزامي، مع تقليص استخدام الروسية واللغات الأجنبية إلى حد كبير.

كما أطلقت الحكومة برامج لتدريب المعلمين في المناطق التي كانت الروسية فيها سائدة، لضمان جودة التعليم باللغة الأوكرانية، وشملت البرامج تطوير المناهج وتقديم مواد تعليمية عصرية تتماشى مع ثقافة البلاد وهويتها.

وسائل الإعلام الأوكرانية تدعم اللغة الرسمية

منذ عام 2022، أصبحت جميع وسائل الإعلام المطبوعة والرقمية ملزمة باستخدام اللغة الأوكرانية بنسبة لا تقل عن 90% من محتواها. وينطبق ذلك على القنوات التلفزيونية، والإذاعات، والمواقع الإخبارية، والصحف والمجلات. وقد نجحت هذه السياسة في تقليص الاعتماد على اللغة الروسية في الفضاء الإعلامي، مما ساهم في خلق بيئة لغوية داعمة للمواطنة والانتماء الوطني.

وفي الوقت نفسه، استثمرت الدولة في دعم الإنتاج الإعلامي باللغة الأوكرانية، من خلال تمويل المسلسلات والأفلام والبرامج الوثائقية التي تعزز من الهوية الثقافية، وتتناول مواضيع وطنية من منظور أوكراني خالص.

تأثير الاحتلال الروسي على سياسات اللغة في المناطق المحتلة

في المناطق التي تحتلها روسيا مثل دونيتسك ولوهانسك وأجزاء من زابوريجيا وخيرسون، فرضت سلطات الاحتلال الروسية استخدام اللغة الروسية في المدارس والإدارة والمرافق العامة، وحظرت استخدام الأوكرانية رسميًا. بل إن بعض المدارس في هذه المناطق أُجبرت على تمزيق كتب اللغة الأوكرانية وتعويضها بمناهج روسية خالصة.

تصف الحكومة الأوكرانية هذا السلوك بأنه شكل من أشكال الإبادة الثقافية، ويعتبر جزءًا من عملية أوسع تُعرف باسم “الروسنة”، التي تهدف إلى محو الهوية الأوكرانية واستبدالها بهوية روسية مفروضة بالقوة. ويُعد الحفاظ على اللغة الأوكرانية في هذه المناطق تحديًا حقيقيًا للسلطات الأوكرانية والمنظمات الحقوقية.

اللغة الإنجليزية كلغة تواصل دولي

في يونيو 2024، أُقرّ قانون جديد يمنح اللغة الإنجليزية مكانة خاصة كلغة تواصل دولي في أوكرانيا. ويهدف هذا القانون إلى تعزيز انفتاح البلاد على العالم، وزيادة فرص الشباب في التعليم والعمل الدولي، ورفع كفاءة المؤسسات الحكومية في التعامل مع المنظمات الدولية والشركات العالمية.

بحسب القانون، أصبحت معرفة اللغة الإنجليزية شرطًا أساسيًا لبعض الوظائف الرسمية، لا سيما في وزارات الخارجية والتعليم والاقتصاد. كما تم إطلاق برامج حكومية لتعليم اللغة الإنجليزية في المدارس والجامعات، وتحسين مهارات المعلمين في هذا المجال، وتوفير موارد إلكترونية ومجانية لجميع المواطنين.

اللغات الأخرى وحقوق الأقليات

رغم تركيز الدولة على اللغة الأوكرانية، فإن القوانين تحترم أيضًا حقوق الأقليات اللغوية مثل البولنديين والمجريين والرومان والتتار القرم. تُمنح هذه الأقليات حق استخدام لغاتها في التعليم الأساسي وفي الحياة الثقافية داخل مجتمعاتها، بشرط ألا يتعارض ذلك مع السيادة اللغوية العامة.

وقد أنشأت الحكومة مجالس استشارية تمثل هذه الأقليات، وتعمل على صياغة سياسات تضمن توازنًا بين الحفاظ على الهوية الوطنية واحترام التنوع الثقافي واللغوي في البلاد، بما يتماشى مع المعايير الأوروبية لحقوق الإنسان.

الخلاصة: اللغة الأوكرانية كدرع للهوية والسيادة

في ظل الحرب والتحديات الجيوسياسية، برزت اللغة الأوكرانية كعنصر حيوي في تعزيز الهوية الوطنية والحفاظ على استقلال البلاد الثقافي والسياسي. ومع تطور السياسات الرسمية، ودعم المجتمع المدني، يُتوقع أن تزداد مكانة اللغة الأوكرانية في مختلف مجالات الحياة، لتكون رمزًا للمقاومة والوحدة الوطنية. وبينما تستمر الدولة في تعزيز اللغة الأوكرانية، فإنها في الوقت ذاته تفتح الباب أمام اللغات العالمية مثل الإنجليزية، وتحترم حقوق الأقليات، في نموذج يُوازن بين الوطنية والانفتاح والتنوع.