اللغة الرسمية في جنوب السودان 

منذ استقلالها عام 2011، واجهت دولة جنوب السودان الوليدة تحديات معقدة على مختلف الأصعدة، وكان من أبرزها تحديد هوية لغوية وطنية تعبر عن تنوعها وتعزز وحدتها. فبين الإرث الاستعماري، والواقع الاجتماعي المتعدد الأعراق واللغات، والتوجهات الإقليمية والدولية، برز موضوع اللغة الرسمية كقضية محورية في رسم معالم الدولة الجديدة. في هذا المقال، نستعرض بشكل موسع الخلفية التاريخية لاختيار اللغة الرسمية، والتنوع اللغوي الذي يميز جنوب السودان، وأثر السياسات اللغوية على النسيج الاجتماعي والهوية الوطنية.

الخلفية التاريخية والسياسية لاختيار اللغة الرسمية

خضع جنوب السودان لحكم مشترك بين بريطانيا ومصر في الحقبة الاستعمارية، حيث تم اعتماد اللغة الإنجليزية كلغة تعليم وإدارة في الجنوب، على عكس الشمال الذي انتشرت فيه اللغة العربية. بعد اندلاع الحروب الأهلية والانفصال، سعت القيادة الجديدة في جوبا إلى تأكيد استقلالها الثقافي والسياسي من خلال اعتماد اللغة الإنجليزية كلغة رسمية وحيدة للدولة، معتبرة إياها رمزًا للقطيعة مع السودان وتأكيدًا على هوية جديدة ذات طابع أفريقي-أنغلوساكسوني.

الإنجليزية كلغة رسمية: مكاسب ورهانات

على المستوى الرمزي، تُعد اللغة الإنجليزية خيارًا منطقيًا لتوحيد شعب متعدد اللغات واللهجات، وتوفير أداة للتعامل الرسمي داخليًا وخارجيًا. تُستخدم الإنجليزية في الحكومة، والتعليم، والتشريعات، والإعلام الرسمي، وهي كذلك اللغة المعتمدة في المراسلات الدولية. لكن هذا الاختيار يصطدم بواقع ميداني يتمثل في ضعف انتشار اللغة بين عامة الشعب، خاصة في المناطق الريفية، مما يفرض تحديًا حقيقيًا أمام جهود بناء دولة تعتمد على لغة غير محكية على نطاق واسع.

التنوع اللغوي الهائل: أكثر من 60 لغة محلية

جنوب السودان غني بتنوعه اللغوي، حيث تتحدث المجموعات العرقية أكثر من 60 لغة محلية، تنتمي معظمها إلى عائلات اللغات النيلية الصحراوية والنيجر-كونغو. من بين اللغات الأوسع انتشارًا: الدينكا، النوير، الشلك، الزاندي، والباري. تلعب هذه اللغات دورًا أساسيًا في الحياة الاجتماعية والروحية، وتنتقل شفويًا عبر الأجيال، مما يجعلها عنصرًا حيويًا في الحفاظ على الثقافة والهوية المحلية.

اللغة العربية: بين الإقصاء الرسمي والاستخدام الشعبي

رغم حذفها من الدستور كلغة رسمية بعد الانفصال، لا تزال اللغة العربية، وبخاصة لهجة “عربي جوبا”، منتشرة في الأسواق، والمجتمع المدني، وبعض وسائل الإعلام غير الرسمية. استخدمت هذه اللهجة خلال عقود من التفاعل مع شمال السودان، وتطورت لتصبح وسيلة تواصل فعالة بين مجموعات عرقية لا تجمعها لغة محلية واحدة. هذا الواقع يثير نقاشًا حول مدى واقعية تجاهل العربية في السياسات الرسمية رغم تأثيرها الشعبي العميق.

السواحيلية: الانفتاح على شرق إفريقيا

في إطار التوجه الاستراتيجي نحو تعزيز العلاقات مع دول مجموعة شرق إفريقيا (EAC)، تبنّت الحكومة خطة لاعتماد اللغة السواحيلية كلغة وطنية ثانية. وتُعتبر السواحيلية لغة مشتركة بين شعوب كينيا، وأوغندا، وتنزانيا، ما يسهل التعاون الإقليمي في مجالات الاقتصاد، والتعليم، والسياسة. كما يُعزز ذلك من فرص الاندماج الإقليمي لجنوب السودان، ويُقلل من اعتمادها الحصري على الإنجليزية.

السياسات التعليمية واللغوية: الحاجة إلى التوازن

يعاني قطاع التعليم في جنوب السودان من نقص حاد في الموارد، والمعلمين المؤهلين، والمناهج متعددة اللغات. يؤدي ذلك إلى فجوة بين اللغة الرسمية والواقع الاجتماعي، حيث يفقد العديد من الطلاب القدرة على التفاعل مع المواد الدراسية المكتوبة بلغة لا يفهمونها جيدًا. لهذا، تبرز الحاجة إلى تبني سياسة تعليمية مرنة تشمل دعم التعليم باللغات المحلية إلى جانب الإنجليزية، كوسيلة لتحسين نواتج التعلم وتعزيز مشاركة المجتمع.

دور الإعلام والكنيسة في دعم التعدد اللغوي

تلعب وسائل الإعلام المحلية، لا سيما الإذاعات المجتمعية، دورًا مهمًا في بث البرامج بلغات محلية، مما يساهم في تثبيت قيم التنوع والانتماء. كما تستخدم الكنائس، التي تمثل مؤسسة ذات نفوذ كبير في جنوب السودان، اللغات المحلية في الطقوس والوعظ، مما يمنح هذه اللغات شرعية دينية واجتماعية ويعزز استخدامها اليومي.

آفاق مستقبلية: نحو سياسة لغوية متوازنة

الطريق نحو سياسة لغوية متوازنة في جنوب السودان يتطلب الاعتراف بالتنوع اللغوي كقيمة مضافة، لا كعائق. يمكن تبني نموذج لغوي متعدد المستويات، حيث تُستخدم الإنجليزية في الشؤون الرسمية والدولية، والسواحيلية في الإطار الإقليمي، بينما تُمنح اللغات المحلية مساحة واسعة في التعليم والمجتمع. كذلك، لا بد من إشراك المجتمع المدني في صياغة السياسات اللغوية لضمان قبولها وتطبيقها بشكل فعال.

خاتمة

اللغة الرسمية ليست مجرد أداة إدارية، بل هي مرآة للهوية، ووسيلة للتعبير، وجسر للتواصل. وفي حالة جنوب السودان، فإن تحديد اللغة الرسمية يُعد مسألة بالغة التعقيد، تتقاطع فيها الجغرافيا بالتاريخ، والسياسة بالثقافة. بين الإنجليزية، والعربية، والسواحيلية، واللغات المحلية، تبقى الحاجة قائمة لبناء سياسة لغوية شاملة، تراعي الواقع وتستثمر في التعدد، لضمان مستقبل أكثر شمولية واستقرارًا.