في قلب النظام السياسي والثقافي في كوريا الشمالية، تقف اللغة الرسمية كأداة مركزية لتشكيل الهوية وتوجيه الفكر الجمعي. لا تُستخدم اللغة فقط كوسيلة تواصل، بل تُعدّ مكونًا أساسيًا من مكونات الانتماء القومي والالتزام الأيديولوجي. وبينما تنقسم شبه الجزيرة الكورية إلى شمال وجنوب، اتخذ كل منهما مسارًا لغويًا خاصًا يعكس اختلاف السياسات والرؤى الحضارية. وتُعد لغة “مونهاواŏ” المعتمدة في كوريا الشمالية مثالًا واضحًا على هذا المسار المنفصل، فهي ليست مجرد لهجة مميزة بل مشروع ثقافي وسياسي متكامل.
أقسام المقال
تطور اللغة الرسمية في كوريا الشمالية
منذ نهاية الاحتلال الياباني وتقسيم كوريا في منتصف القرن العشرين، بدأ قادة كوريا الشمالية في العمل على ترسيخ هوية لغوية مستقلة عن الجنوب وعن أي تأثير خارجي. تم اختيار لهجة بيونغيانغ لتكون الأساس للغة الرسمية، لما تمثله من نقاء قومي بحسب منظور القيادة. وتم تطوير “مونـهوا أو” تدريجيًا مع إدخال تعديلات تهدف إلى تطهير اللغة من المصطلحات ذات الأصول الأجنبية، خاصة اليابانية والإنجليزية، واستبدالها بتعابير كورية متجذرة. هذا المشروع لم يكن لغويًا فقط، بل يحمل دلالات سيادية ورمزية عميقة تؤكد على انفصال كوريا الشمالية لغويًا وثقافيًا عن أي نفوذ خارجي.
الخصائص اللغوية لـ “مونـهوا أو”
تتمتع اللغة الرسمية في كوريا الشمالية بمجموعة من الخصائص الفريدة، ما يجعلها تختلف بشكل ملموس عن النسخة المستخدمة في كوريا الجنوبية. أول ما يلفت الانتباه هو النطق الذي يتبنى أسلوبًا أكثر تقليدية وأقرب إلى الجذور التاريخية للغة الكورية. كما أن المفردات التي تُستخدم في الإعلام والتعليم والسياسة تميل إلى التبسيط والتجريد، مع الاعتماد على كلمات مأخوذة من الطبيعة أو الحياة اليومية، بهدف تقريب اللغة من المواطنين وتعزيز الشعور بالهوية القومية.
كذلك، تم تجنب استخدام الحروف الصينية تمامًا، وتم تطوير المصطلحات العلمية والتقنية بوسائل محلية، مما دفع باتجاه استقلال لغوي حقيقي. ومن اللافت أن بعض التعبيرات اليومية التي يستخدمها المواطن في الجنوب قد تكون غير مفهومة في الشمال، والعكس صحيح، ما يعكس عمق الانفصال بين اللغتين.
السياسات اللغوية وأثرها على المجتمع
تُدار اللغة في كوريا الشمالية بطريقة مركزية ومنضبطة للغاية. يتولى معهد أبحاث اللغة الكوري الشمالي مهمة تطوير اللغة، ويعمل تحت إشراف صارم من الدولة. يتم تحديث القواميس بشكل دوري لإضافة مصطلحات جديدة تتماشى مع التقدم التكنولوجي والسياسي، ولكن دائمًا وفق رؤية الدولة. هذا يعني أن اللغة ليست فقط أداة تعليم أو تواصل، بل أداة سيطرة وتوجيه أيديولوجي.
ويُشترط على وسائل الإعلام والمؤسسات التعليمية الالتزام التام باللغة الرسمية، ويُمنع استخدام أي مفردات غير معتمدة. حتى الأعمال الأدبية والمسرحية تُراجع لغويًا لتتوافق مع الخط الرسمي، ما يُحول اللغة إلى مرآة دقيقة للأيديولوجية الاشتراكية التي تتبناها الدولة.
الرقابة اللغوية والتكنولوجيا
مع التوسع في استخدام الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر داخل كوريا الشمالية، وضعت الدولة أنظمة رقابة لغوية شديدة الصرامة. يتم تزويد الأجهزة ببرمجيات تمنع استخدام الكلمات غير المعترف بها أو تلك القادمة من ثقافات أجنبية، خاصة من كوريا الجنوبية. كما أن بعض التطبيقات تُراقب تلقائيًا إدخال النصوص، وتقوم بحذف الكلمات أو العبارات التي لا تتماشى مع السياسة الرسمية.
ويُعتقد أن هذه الرقابة تشمل أيضًا مراقبة المحادثات النصية والبحث على الإنترنت، بما في ذلك تتبع لقطات الشاشة، في محاولة لمنع تسلل اللهجات الجنوبية أو الكلمات الأجنبية. هذه الإجراءات تُظهر كيف أن اللغة تُعامل كحدود أمنية لا تقل أهمية عن الحدود الجغرافية.
الفروق بين اللغة في الشمال والجنوب
رغم أن الكوريتين تتشاركان في الأساس اللغوي التاريخي، إلا أن الفروقات أصبحت أكثر وضوحًا مع مرور الوقت. في الجنوب، تأثرت اللغة بشكل كبير بالانفتاح الثقافي والتجاري، وأدخلت آلاف الكلمات من الإنجليزية، خاصة في مجالات التكنولوجيا، والموضة، والرياضة. أما في الشمال، فهناك التزام متشدد بالمفردات الكورية الصرفة، مع مقاومة صارمة لأي تأثير لغوي أجنبي.
هذا التباين خلق صعوبات في التفاهم بين سكان الكوريتين، لا سيما في اللقاءات السياسية أو الإنسانية النادرة. حتى البرامج التي تبث من الجنوب ويشاهدها سكان الشمال عبر طرق غير رسمية تُعتبر تهديدًا لغويًا، لأنها تُروّج لنمط لغوي مختلف عن المعتمد في الدولة.
اللغة كأداة للهوية الوطنية
تُستخدم اللغة في كوريا الشمالية كوسيلة لإعادة إنتاج الشعور بالقومية والانتماء. ففي المدارس، يُلقّن الأطفال مصطلحات وتعابير تعبّر عن الولاء للقائد، وتُستخدم اللغة في الأغاني الوطنية، والخطب السياسية، والمناهج الدراسية لترسيخ قيم الاشتراكية والوحدة الوطنية. اللغة هنا ليست فقط وسيلة للتعبير، بل حاضنة لهوية ثقافية وسياسية يُراد لها أن تبقى نقية ومتجانسة.
كما أن القواميس والمعاجم تُحدث باستمرار بإشراف الدولة لتتماشى مع اللغة الجديدة الرسمية. ولا يُسمح بظهور طبعات مستقلة، بل تُوزع النسخ المعتمدة على المؤسسات والأفراد، في خطوة توضح أهمية السيطرة على المفردة المكتوبة والمنطوقة.
واقع اللغة في الحياة اليومية
في الحياة اليومية للمواطن الكوري الشمالي، تُستخدم “مونهاواŏ” في كل السياقات، من النقاشات العائلية إلى المعاملات الرسمية. حتى اللافتات في الشوارع، والإعلانات الحكومية، والنصوص التعليمية تخضع لمراجعة لغوية صارمة. هناك اهتمام شديد بجودة النطق والإملاء، وتُعقد اختبارات دورية في المدارس لضمان التزام الطلاب بالنمط الرسمي.
بل إن الأخطاء اللغوية قد تُفسر أحيانًا كعلامات على عدم الولاء أو التأثر بالثقافة الأجنبية، مما يُشدد الرقابة الذاتية على المواطن في حديثه وكتابته. هذا الواقع يُبرز كيف أن اللغة في كوريا الشمالية تُستخدم كآلية لتشكيل السلوك وتوجيه التفكير، وليس فقط كأداة تواصل محايدة.
الخلاصة
اللغة الرسمية في كوريا الشمالية ليست مجرد وسيلة للنطق أو الكتابة، بل هي مشروع ثقافي سياسي متكامل يسعى إلى تعزيز الانفصال عن العالم الخارجي وترسيخ هوية لغوية فريدة. من خلال التحكم الصارم في المفردات، والمناهج، وأدوات التكنولوجيا، تسعى الدولة إلى بناء مجتمع لغوي منغلق، يحاكي رؤيتها الأيديولوجية ويخدم أهدافها السياسية. “مونـهوا أو” ليست لغة بالمعنى التقليدي، بل هي خطاب رسمي يحمل في طياته إشارات الولاء والانتماء، ويعكس فلسفة دولة ترى في اللغة سلاحًا ناعمًا لكنها فعال.