تمثل إيران واحدة من أكثر الدول التي حظيت بتاريخ متنوع ومعقد في منطقة الشرق الأوسط، إذ تتشابك فيها الحضارات القديمة مع التحولات السياسية والدينية الحديثة. وتُعتبر أرض إيران موطنًا للعديد من الإمبراطوريات الكبرى التي أثّرت في التاريخ البشري، بداية من حضارات ما قبل الميلاد، مرورًا بالفتوحات الإسلامية، ووصولًا إلى الثورة الإسلامية وبروز الجمهورية الحالية. إن فهم تاريخ إيران يمنح رؤية أعمق حول أصول الصراعات المعاصرة والهوية السياسية والدينية للبلاد.
أقسام المقال
إيران في العصور القديمة
سكنت القبائل الإيرانية الهضبة الفارسية منذ الألفية الثانية قبل الميلاد، وتحديدًا قبائل الميديين والفرس. برزت حضارة عيلام في الجنوب الغربي وكانت إحدى أولى الحضارات التي تركت آثارًا مكتوبة باللغة العيلامية. في القرن السادس قبل الميلاد، برز كورش الكبير، مؤسس الإمبراطورية الأخمينية، التي غزت معظم أراضي الشرق الأوسط ووضعت أسس نظام إداري متطور. كان كورش أول من أصدر ما يعتبر أول وثيقة لحقوق الإنسان، تُعرف بـ”أسطوانة كورش”.
تميّزت الإمبراطورية الأخمينية ببنية مركزية لكنها أتاحت للحكومات المحلية قدرًا من الحكم الذاتي. كما لعبت دورًا كبيرًا في تطوير الطرق التجارية مثل الطريق الملكي. بعد سقوط الأخمينيين على يد الإسكندر الأكبر، حكمت إيران سلالات مثل السلوقيين، ثم جاءت الإمبراطورية البارثية ومن بعدها الساسانية، التي شهدت ذروة النفوذ الفارسي قبل الفتح الإسلامي.
إيران تحت الحكم الإسلامي
دخل العرب المسلمون بلاد فارس في منتصف القرن السابع الميلادي، وتمكنوا من إسقاط الدولة الساسانية. ومع مرور الزمن، لم يقتصر التغيير على الديانة، بل شهدت إيران تحولاً ثقافيًا كبيرًا، حيث ساهم الفرس في إثراء الحضارة الإسلامية، وبرز منهم علماء كبار مثل ابن سينا والفارابي والبيروني. ورغم اندماجهم في الدولة العباسية، ظل للفرس نفوذ قوي خاصة عبر “البرامكة”.
خلال هذه الفترة، ظهرت سلالات محلية مثل الطاهريين والسامانيين، أعادت إحياء الثقافة الفارسية واللغة الفارسية المكتوبة بالحروف العربية. استمرت مساهمات الإيرانيين في الفقه والحديث والتفسير، وكان لهم دور كبير في تطور الفكر الإسلامي الوسطي. لكن في الوقت ذاته، شهدت إيران صراعات مذهبية وتنافسًا بين الطوائف.
إيران في العهد الصفوي
في عام 1501، أعلن الشاه إسماعيل الصفوي تأسيس الدولة الصفوية، وجعل المذهب الشيعي الإثني عشري المذهب الرسمي. كان لذلك أثر كبير في تشكيل الهوية الإيرانية الدينية والسياسية حتى يومنا هذا. واجه الصفويون صراعًا مفتوحًا مع العثمانيين السنة، خصوصًا في مناطق غرب إيران.
شهدت إيران الصفوية ازدهارًا في العمارة والفنون، لا سيما في عهد الشاه عباس الكبير، حيث أصبحت أصفهان مركزًا ثقافيًا وتجاريًا مزدهرًا. أنشئت مدارس، ومراكز علمية، وأسواق مزخرفة، ولا تزال آثار تلك الفترة حية إلى اليوم. كما دعمت الدولة العلماء ورجال الدين الشيعة، مما أدى إلى تعزيز المرجعية الشيعية.
إيران في العصر القاجاري
بدأ العصر القاجاري في أواخر القرن الثامن عشر بقيادة آغا محمد خان قاجار، لكن إيران خلال هذا العهد تعرضت لعدة هزائم أمام القوى الكبرى، أبرزها روسيا القيصرية، ما أدى إلى فقدان مناطق مثل القوقاز وأذربيجان الشمالية. في المقابل، حاول بعض الشاهات إدخال إصلاحات محدودة لكنها لم تكن فعالة.
شهدت البلاد في هذه المرحلة نموًا بطيئًا للمؤسسات الحديثة، مثل الصحف والبرلمان، وبرزت حركة “المشروطة” التي نادت بإنشاء دستور وبرلمان، مما أدى إلى الثورة الدستورية عام 1906. إلا أن التدخل البريطاني والروسي حدّ من نجاح هذه الحركة، واستمر الصراع بين القوى التقليدية والإصلاحية.
إيران في عهد البهلوي
تأسست الدولة البهلوية عام 1925 عندما أطاح رضا شاه بمؤسس الأسرة القاجارية، معلنًا بدء مشروع التحديث. سعى إلى تقوية الجيش، توسيع التعليم، وإنشاء بنى تحتية متقدمة. لكنه قمع الحريات الدينية والثقافية، وأجبر رجال الدين على الابتعاد عن الشأن العام.
خلفه ابنه محمد رضا شاه، الذي استفاد من ثروات النفط وقرّب إيران من الغرب، خاصة من الولايات المتحدة. لكن سياساته القمعية، وتوسيع سلطات جهاز السافاك، أثارت الغضب الشعبي. رغم إجراء إصلاحات اجتماعية ضمن “الثورة البيضاء”، بقيت الفجوة بين النخبة والشعب قائمة، ومهّدت للثورة الإسلامية.
الثورة الإسلامية في إيران وتأسيس الجمهورية
في عام 1979، اندلعت الثورة الإسلامية بقيادة آية الله الخميني، بعد شهور من التظاهرات الشعبية ضد النظام. أُطيح بالشاه، وأُعلنت الجمهورية الإسلامية، وأُقرّ دستور جديد يجعل من ولاية الفقيه المرجعية العليا. تولى الخميني زعامة البلاد حتى وفاته عام 1989.
شهدت السنوات الأولى من الجمهورية حربًا مدمرة مع العراق استمرت ثمانية أعوام، تركت ملايين الضحايا والدمار الاقتصادي. لكن في الوقت ذاته، استقرت مؤسسات الحكم، وتمت إعادة بناء القوات المسلحة وتطوير البنية الاجتماعية.
إيران في القرن الحادي والعشرين
دخلت إيران القرن الجديد بتحديات كبيرة، أبرزها العقوبات الدولية على خلفية برنامجها النووي. قُيّدت الحركة الاقتصادية، وتدهورت قيمة العملة، مما دفع الحكومات المتعاقبة لمحاولة تحقيق اكتفاء ذاتي وتنويع الشراكات الخارجية.
شهدت البلاد احتجاجات عدة، منها “الحركة الخضراء” عام 2009، واحتجاجات 2017 و2019، وأخيرًا احتجاجات 2022 بعد وفاة مهسا أميني. تعكس هذه التظاهرات صراعًا داخليًا حول الهوية والسياسات الاقتصادية والاجتماعية.
في عام 2024، تصاعد التوتر مع إسرائيل عقب ضربات جوية متبادلة، مما زاد من تعقيد الأوضاع الإقليمية. وفي مايو 2025، توفي الرئيس إبراهيم رئيسي في حادث مروحية، وتم انتخاب الإصلاحي المعتدل مسعود بزشكيان رئيسًا، في مؤشر لتحول نسبي في المزاج السياسي الإيراني.
خاتمة
إن تاريخ إيران ليس مجرد تسلسل زمني لحكام ومعارك، بل هو سجل لحضارة صمدت عبر آلاف السنين وتطورت رغم التحديات الداخلية والخارجية. من الإمبراطوريات العظيمة إلى الثورات الحديثة، ومن الإنجازات العلمية إلى التحولات العقائدية، تبقى إيران دولة محورية في الشرق الأوسط، تلعب أدوارًا متعددة في السياسة والدين والثقافة. وإن فهم هذا التاريخ يعين على قراءة حاضرها المليء بالتعقيدات والتحديات.