تاريخ بوركينا فاسو

لا يمكن فهم ملامح الحاضر في بوركينا فاسو دون العودة إلى صفحات تاريخها المليئة بالأحداث الجسيمة والتحولات الكبرى. تقع هذه الدولة غير الساحلية في قلب غرب إفريقيا، وتُعد من البلدان التي صاغت هويتها السياسية والثقافية عبر كفاح طويل ضد الاستعمار، ومرورًا بالانقلابات، وصولًا إلى سعيها المستمر لبناء دولة مدنية ديمقراطية في ظل تحديات أمنية واقتصادية جسيمة. هذا المقال يسلط الضوء على محطات مفصلية من تاريخ بوركينا فاسو منذ العصور القديمة وحتى اليوم، مع تحليل لآثار ذلك التاريخ على الواقع المعاصر.

بوركينا فاسو في العصور القديمة

قبل تشكّل أي كيان سياسي حديث، كانت أرض بوركينا فاسو مسرحًا لنشاط بشري كثيف منذ آلاف السنين. الأبحاث الأثرية أظهرت وجود تجمعات بشرية مستقرة منذ العصر الحجري الحديث، كانت تمارس الزراعة والصيد وتربية الحيوانات. هذه المجتمعات الصغيرة تطورت لاحقًا إلى تشكيلات سياسية أوسع، مثل ممالك موسي الشهيرة، والتي نشأت في القرن الحادي عشر، وامتدت حتى القرن التاسع عشر. تميزت هذه الممالك بنظام حكم هرمي وبتنظيم اجتماعي دقيق، وساهمت في ازدهار التجارة والثقافة في المنطقة.

بوركينا فاسو تحت الاستعمار الفرنسي

في أواخر القرن التاسع عشر، بدأت القوى الاستعمارية الأوروبية بالتمدد في القارة الإفريقية، وكانت فرنسا من أبرزها. دخلت بوركينا فاسو تحت السيطرة الفرنسية رسميًا في عام 1896، وأُدمجت ضمن مستعمرة “فولتا العليا”. عانى السكان خلال هذه الفترة من سياسات العمل القسري والضرائب المجحفة، كما تم تجاهل الثقافات المحلية لصالح الفرض القسري للغة الفرنسية ونمط الحياة الأوروبي. ولكن رغم الهيمنة، لم يخلُ الأمر من مقاومة محلية؛ فقد اندلعت انتفاضات في مناطق متعددة ضد السلطات الاستعمارية.

بوركينا فاسو والاستقلال الوطني

مع تصاعد الحركات التحررية في خمسينات القرن العشرين، بدأت بوركينا فاسو – التي كانت تُعرف حينها بفولتا العليا – بالمطالبة بالاستقلال. وفي عام 1960 تحقق ذلك رسميًا، وأُعلن الاستقلال في 5 أغسطس. تولّى موريس ياميوغو الحكم كرئيس أول للجمهورية، إلا أن نظامه سرعان ما اتّسم بالديكتاتورية وسوء الإدارة، مما أدى إلى احتجاجات شعبية وانقلاب عسكري في عام 1966 قاده الجنرال أبوبكر سانغولي لاميزانا. وهكذا دخلت البلاد في دوامة من الانقلابات والحكومات العسكرية.

بوركينا فاسو في ظل حكم توماس سانكارا

في عام 1983، برز اسم توماس سانكارا، الضابط الشاب ذو الكاريزما الثورية، الذي قاد انقلابًا وأعلن نفسه رئيسًا. أطلق سانكارا سلسلة من الإصلاحات التي هدفت إلى تحرير البلاد من التبعية الاقتصادية والثقافية، فغيّر اسمها إلى “بوركينا فاسو”، بمعنى “أرض الرجال النزهاء”. شجع الإنتاج المحلي، وأطلق حملات تطعيم جماعي، وسعى لتحديث الزراعة والتعليم. لكنه واجه أيضًا انتقادات بسبب توجهاته اليسارية الحادة، وقلقه من المؤامرات أدى إلى تقييد بعض الحريات. اغتيل في انقلاب دموي عام 1987 قاده رفيقه السابق بليز كومباوري.

بوركينا فاسو في عهد بليز كومباوري

استمر حكم بليز كومباوري قرابة ثلاثة عقود، وتمكن من فرض استقرار نسبي في البداية، لكنه اعتمد على تكتيكات قمعية للمعارضين، كما تورطت حكومته في دعم حروب إقليمية مجاورة. ومع تفاقم الأوضاع الاقتصادية واستشراء الفساد، تصاعدت المعارضة ضده، إلى أن اندلعت ثورة شعبية في أكتوبر 2014 أطاحت به، لتبدأ البلاد رحلة جديدة نحو الانتقال الديمقراطي.

بوركينا فاسو بعد الثورة ومحاولات بناء الديمقراطية

بعد رحيل كومباوري، تم تشكيل حكومة انتقالية، تخللتها محاولات انقلابية أبرزها انقلاب 2015. رغم التحديات، أُجريت انتخابات ديمقراطية فاز فيها روش مارك كريستيان كابوري، لكن التدهور الأمني الناتج عن تصاعد الهجمات الجهادية جعل الوضع هشًا. في يناير 2022، شهدت البلاد انقلابًا جديدًا أطاح بكابوري، وأعقبه انقلاب آخر في سبتمبر من نفس العام، ليتولى إبراهيم تراوري السلطة في وقت حساس.

تحليل: كيف شكّل تاريخ بوركينا فاسو حاضرها المضطرب؟

إن تعدد الانقلابات التي شهدتها بوركينا فاسو يكشف عن أزمة بنيوية في مؤسسات الحكم والثقة الشعبية. تأثيرات الحقبة الاستعمارية لا تزال قائمة، خصوصًا في شكل الاقتصاد واللغة والتعليم، بينما تعاني الدولة من ضعف الجيش والانقسام الداخلي. فشل النخب السياسية المتعاقبة في تحقيق التنمية جعلت بعض شرائح المجتمع تنظر بإيجابية إلى قادة الانقلابات، مما أعاق ترسيخ الديمقراطية. واليوم، يقف البلد بين مفترق طرق: إما التوغل أكثر في العسكرة، أو إعادة صياغة مشروع وطني جامع يعيد الثقة في الدولة.