تاريخ جيبوتي

تُعد جمهورية جيبوتي من الدول الصغيرة حجمًا، لكنها عظيمة بموقعها وتاريخها. تقع في شرق إفريقيا، وتطل على مضيق باب المندب الاستراتيجي، ما جعلها نقطة جذب حضاري وسياسي واقتصادي منذ آلاف السنين. تاريخها متعدد الطبقات، يمتد من العصر الحجري وحتى العصر الحديث، مرورًا بعهود الممالك الإسلامية، والاستعمار الأوروبي، والاستقلال، وصولًا إلى تحولها إلى نقطة ارتكاز عسكري دولي اليوم. يعكس تاريخ جيبوتي صراعًا مستمرًا من أجل التميز والبقاء وسط أزمات عرقية واقتصادية، وأطماع إقليمية ودولية.

الحقبة الجيولوجية وبدايات الاستيطان البشري

تشير الأدلة الجيولوجية إلى أن منطقة جيبوتي كانت مأهولة بالبشر منذ عصور ما قبل التاريخ، حيث تم اكتشاف أدوات حجرية وأدلة على وجود الإنسان الأول منذ أكثر من مليون عام. وقد ساهم موقعها الطبيعي بين آسيا وإفريقيا في جعلها ممرًا للبشر الأوائل أثناء هجرتهم من القارة السمراء نحو الشرق الأوسط.

العلاقات المبكرة مع الحضارات القديمة

كانت جيبوتي جزءًا من منطقة “أرض بونت” التي ارتبطت تجاريًا بمصر الفرعونية منذ الألفية الثانية قبل الميلاد. هذه الروابط ساعدت في تطوير النشاط التجاري البحري عبر البحر الأحمر، مما أعطى المنطقة أهمية اقتصادية مبكرة. كانت العطور والذهب والمر من أبرز السلع المتبادلة.

الفترة الإسلامية والممالك المحلية

دخل الإسلام إلى جيبوتي في القرن السابع الميلادي، عبر التجار والدعاة القادمين من شبه الجزيرة العربية. بحلول العصور الوسطى، نشأت ممالك وسلطنات إسلامية مثل سلطنة عدل وسلطنة إيفات، التي كان لها دور بارز في مقاومة التوسع المسيحي في الحبشة، وتثبيت هوية إسلامية قوية في المنطقة.

الاستعمار الأوروبي ومطامع القوى الكبرى

في أواخر القرن التاسع عشر، بدأ التنافس الأوروبي يحتدم على منطقة القرن الإفريقي. حصلت فرنسا في 1862 على ميناء أوبوك من زعماء قبيلة العفر، وفي عام 1896، أعلنت فرنسا إقامة مستعمرة “الصومال الفرنسي”. أنشأت فرنسا مدينة جيبوتي الحديثة، وبنت سكة حديد استراتيجية تربط بين جيبوتي وأديس أبابا، ما رسّخ سيطرتها الاقتصادية والعسكرية.

الحياة تحت الاحتلال الفرنسي

رغم التحديثات العمرانية التي أدخلها الفرنسيون، عانى السكان المحليون من التمييز العنصري، والتهميش الاقتصادي، وفرض الثقافة الفرنسية بالقوة. كانت النخب تُدار من باريس، بينما حُرم المواطنون الأصليون من أبسط حقوقهم، مما ولّد بيئة خصبة لظهور الوعي القومي.

بذور النضال السياسي نحو الاستقلال

بدأت أولى حركات المقاومة في أربعينيات القرن العشرين، وتبلورت في الخمسينيات بقيادة شخصيات وطنية بارزة مثل محمود الحربي. لكن الاستفتاء الأول عام 1958، الذي أرادت فرنسا من خلاله شرعنة وجودها، شهد تدخلات وتزويرًا واسعًا. تكرر السيناريو في استفتاء 1967، رغم تصاعد الغضب الشعبي.

نيل الاستقلال وتأسيس الدولة

أخيرًا، وبفعل الضغوط الداخلية والخارجية، نالت جيبوتي استقلالها في 27 يونيو 1977، واختير حسن جوليد أبتيدون أول رئيس للجمهورية. كانت التحديات جسيمة، فالدولة حديثة الاستقلال كانت تفتقر للكوادر المؤهلة، وتعاني من انقسامات قبلية بين العفر والعيسى.

الأزمات العرقية والحرب الأهلية

رغم محاولات التوازن العرقي، انفجرت حرب أهلية بين الحكومة ومتمردي “جبهة استعادة الوحدة والديمقراطية” الذين طالبوا بمزيد من الحقوق للعفر. استمرت الحرب حتى عام 2001، حين تم التوصل إلى اتفاق سلام جزئي. ولا تزال آثار هذا الصراع ماثلة في السياسات الداخلية.

الاقتصاد المعتمد على الخدمات اللوجستية

يعتمد اقتصاد جيبوتي على موقعها الجغرافي، حيث تشكل الموانئ وقطاع الخدمات اللوجستية شريان الحياة. تخدم موانئها إثيوبيا بالكامل تقريبًا. ورغم الاستثمارات الصينية في البنية التحتية، إلا أن نسب البطالة والفقر ما زالت مرتفعة، والاعتماد على المساعدات الأجنبية قائم.

التواجد العسكري الدولي في جيبوتي

جيبوتي اليوم تستضيف قواعد عسكرية أمريكية، فرنسية، صينية، ويابانية، ما جعلها واحدة من أكثر المناطق ازدحامًا بالقوات الدولية في العالم. هذا التعدد يؤمن لها دخلًا ثابتًا، لكنه يطرح تساؤلات عن السيادة واستغلال الموقع مقابل النفوذ.

جيبوتي في السياسة الإقليمية والدولية

تمكنت جيبوتي من لعب دور دبلوماسي متوازن في النزاعات الإقليمية، خاصة بين إثيوبيا وإريتريا. كما تشارك في تحالفات لمكافحة الإرهاب والقرصنة. ومع ذلك، فإنها تسعى جاهدًة للحفاظ على استقلال قرارها وسط تناقضات المصالح الكبرى.

خاتمة

منذ العصر الحجري وحتى اليوم، كانت جيبوتي ساحة عبور وصراع واستقطاب. هذا التاريخ الطويل منحها هوية مركبة، مليئة بالصراعات والتحديات، لكنها في الوقت نفسه، تملك من المقومات ما يجعلها دولة واعدة. يبقى المستقبل مرهونًا بإرادة شعبها وقدرتها على تجاوز الانقسامات، والاستفادة من موقعها دون أن تفقد سيادتها.