تُعد أوكرانيا واحدة من الدول الأوروبية التي تضمّ مجتمعًا مسلمًا يمتد جذوره لقرون، ويمثّل ركيزة تاريخية وثقافية ضمن التكوين السكاني للبلاد. وعلى الرغم من أن المسلمين لا يشكّلون أغلبية سكانية، فإن لهم وجودًا راسخًا وتاريخًا غنيًا يرتبط بمنطقة القرم، التي كانت لفترة طويلة مركزًا للحضارة الإسلامية في أوروبا الشرقية. ومع التطورات السياسية والاضطرابات التي شهدتها البلاد خلال العقد الماضي، أصبح من المهم تسليط الضوء على عدد المسلمين وتوزيعهم ومكانتهم في المجتمع الأوكراني المعاصر.
أقسام المقال
عدد المسلمين في أوكرانيا
تتراوح التقديرات الحديثة لعدد المسلمين في أوكرانيا بين 500,000 و600,000 نسمة، مما يشكل نحو 1.3% إلى 1.6% من إجمالي السكان. ومع ذلك، كانت التقديرات قبل عام 2014 تصل إلى حوالي 1.5 مليون مسلم، خاصة إذا أُخذ بعين الاعتبار تتار القرم والمجتمعات المسلمة الأخرى في الشرق والجنوب. الانخفاض الملحوظ في العدد يعزى إلى التهجير القسري والنزوح الذي نتج عن الحرب في دونباس واحتلال شبه جزيرة القرم من قبل روسيا، وهو ما دفع كثيرًا من المسلمين إلى مغادرة البلاد أو الانتقال إلى مناطق أكثر استقرارًا داخلها.
التوزيع الجغرافي للمسلمين في أوكرانيا
ينتشر المسلمون في مناطق متعددة من أوكرانيا، إلا أن الكثافة الأكبر تتركز في شبه جزيرة القرم، التي تُعد الموطن التاريخي لتتار القرم، وهم مجموعة عرقية تتحدث اللغة التتارية وتدين بالإسلام. كما توجد مجتمعات إسلامية معتبرة في كييف، العاصمة، حيث تتركز المؤسسات الإسلامية الكبرى، وكذلك في خاركيف وأوديسا ودنيبرو وزاباروجيا. وقد ساهمت الهجرات التاريخية والتجارة والعلاقات الإقليمية في توطين المسلمين في هذه المدن، حيث أسسوا مساجد ومدارس ومراكز ثقافية تعبّر عن هويتهم.
التنوع العرقي والديني داخل المجتمع المسلم
المجتمع المسلم في أوكرانيا ليس كتلة واحدة متجانسة، بل هو مجتمع متعدد الأعراق والثقافات. إلى جانب تتار القرم، هناك مسلمون من الأتراك، الأذربيجانيين، الشيشان، الأوزبك، الطاجيك، وبعض الجاليات العربية من سوريا والعراق والأردن. كما بدأ بعض الأوكرانيين والروس باعتناق الإسلام، ما أضفى بُعدًا جديدًا على المشهد الديني في البلاد. أما من الناحية المذهبية، فإن الغالبية العظمى من المسلمين في أوكرانيا يتبعون المذهب الحنفي السني، مع وجود أقليات شيعية في بعض المناطق.
التحديات التي تواجه المسلمين في أوكرانيا
يواجه المسلمون في أوكرانيا تحديات متزايدة، خصوصًا منذ عام 2014. فقد تسبب الاحتلال الروسي للقرم في تقييد حرية العبادة لدى تتار القرم، وتعرض العديد منهم للاعتقالات التعسفية والمضايقات الأمنية. كما أن الحرب في الشرق أدت إلى تدمير بعض المساجد والمراكز الثقافية. أما في باقي أجزاء أوكرانيا، فعلى الرغم من أن الدستور يضمن حرية المعتقد، إلا أن المسلمين يواجهون أحيانًا صورًا من التهميش أو ضعف التمثيل في الإعلام والحياة السياسية. ومع ذلك، فإن المجتمع المدني المسلم يواصل نضاله من أجل إثبات وجوده وتوسيع مساحته في الحياة العامة.
المؤسسات الإسلامية ودورها في المجتمع
تلعب المؤسسات الإسلامية دورًا محوريًا في تعزيز الهوية الدينية للمسلمين في أوكرانيا. من أبرز هذه المؤسسات “الإدارة الدينية للمسلمين في أوكرانيا – أمة”، التي تشرف على إدارة المساجد والمراكز التعليمية، وتنظم الفعاليات الدينية مثل رمضان وعيد الأضحى. كما توجد مؤسسات تعليمية إسلامية مثل مدارس تحفيظ القرآن، والمراكز الثقافية التي تسعى لدمج المسلمين في المجتمع وتعزيز روح التعايش. وتبرز أيضًا بعض المبادرات النسوية الإسلامية التي تهدف إلى تمكين المرأة المسلمة وتعزيز مشاركتها في العمل المجتمعي والدعوي.
الحضور الإسلامي في العاصمة كييف
تمثل كييف مركزًا مهمًا للمجتمع المسلم في أوكرانيا، حيث توجد فيها العديد من المساجد والمراكز الإسلامية والمقرات الرسمية للمنظمات الدينية. ويتميّز المسلمون في كييف بنشاطهم الإعلامي والثقافي والدعوي، وتُنظم فيها مؤتمرات إسلامية دورية تهدف إلى دعم الحوار بين الأديان، خاصة في ظل التحديات التي تواجه الأقليات في البلاد. كما أن الجالية المسلمة هناك تحرص على تعليم أبنائها الدين الإسلامي في بيئة مفتوحة تراعي القوانين الأوكرانية.
التفاعل بين المسلمين والمجتمع الأوكراني
رغم قلة أعدادهم نسبيًا، يساهم المسلمون في أوكرانيا في الحياة الاقتصادية والتعليمية والثقافية، حيث يعمل العديد منهم في مجالات الطب والهندسة والتعليم وريادة الأعمال. كما أن بعض المثقفين المسلمين أصبحوا جزءًا من المشهد الأكاديمي والإعلامي. وهناك تعاون ملحوظ بين بعض المؤسسات الإسلامية والأوكرانية في مجالات العمل الخيري ومساعدة اللاجئين، خاصة بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية. وهذا التفاعل الإيجابي يعزز من فرص التفاهم والتقارب الثقافي.
المستقبل والتطلعات
يتطلع المسلمون في أوكرانيا إلى مستقبل ينعم فيه الجميع بالحرية الدينية والتعدد الثقافي. إن بناء دولة مدنية تحترم التنوع الديني والثقافي، وتضمن الحقوق المتساوية لجميع المواطنين، هو أمل يراود جميع مكونات المجتمع، بما في ذلك المسلمين. وقد أظهرت التجارب الأخيرة أن المسلمين قادرون على الصمود، بل والمساهمة الإيجابية في إعادة بناء البلاد إذا أُتيحت لهم الظروف المناسبة، والدعم القانوني، والمساحة الكافية للتعبير عن هويتهم.