عملة زيمبابوي تُعد إحدى أبرز النماذج في العالم لتأثير السياسات الاقتصادية على قيمة العملة الوطنية. فقد شهدت تحولات درامية بين الازدهار والانهيار، ثم محاولات النهوض مجددًا. هذه التجربة الفريدة ليست فقط قصة نقدية، بل درسًا عميقًا في العلاقة بين السياسة، الاقتصاد، وثقة الشعوب. في هذا المقال، نستعرض تاريخ العملة الزيمبابوية، والأزمات التي عصفت بها، وكيف تحاول الدولة إعادة بناء منظومتها النقدية وسط تحديات داخلية وخارجية.
أقسام المقال
البداية: من الدولار الزيمبابوي إلى التضخم المفرط
أُصدر الدولار الزيمبابوي لأول مرة عام 1980 ليحل محل الدولار الروديسي بعد نيل البلاد استقلالها. كانت بدايته واعدة، إذ بلغ سعر صرفه في أول أعوامه ما يعادل 1.47 دولار أمريكي، وهو ما يعكس ثقة المجتمع الدولي وقتها باقتصاد زيمبابوي الزراعي والصناعي. لكن سرعان ما بدأت المؤشرات تتراجع بسبب تباطؤ الإنتاج، تفشي الفساد، وتدهور البنية التحتية.
في أوائل الألفية، قادت قرارات الحكومة – مثل مصادرة الأراضي من المزارعين البيض بدون تعويض – إلى تقويض الإنتاج الزراعي، ما تسبب في نقص الغذاء وارتفاع الأسعار. بدأ التضخم في التسارع، ووصل إلى مستويات غير مسبوقة عام 2008، حيث قُدرت نسبة التضخم اليومية بـ 98%، ما جعل الأسعار تتضاعف كل بضع ساعات.
التحول إلى العملات الأجنبية وفترة الدولرة
بحلول عام 2009، أصبح الدولار الزيمبابوي بلا قيمة تُذكر، إذ كانت الأوراق النقدية الصادرة تصل إلى فئة 100 تريليون دولار زيمبابوي. استسلمت الحكومة أمام الواقع، وأعلنت اعتماد نظام العملات المتعددة، ليتم تداول الدولار الأمريكي، اليورو، والراند الجنوب أفريقي بشكل رسمي.
ورغم أن هذه الخطوة أنقذت الاقتصاد من الانهيار الفوري، إلا أنها حرمت الحكومة من أدوات السياسة النقدية كطباعة الأموال أو تحديد أسعار الفائدة. كما أن الاعتماد على عملات أجنبية جعل الاقتصاد هشًا أمام تغيرات الاقتصاد العالمي وقلّص من السيولة المتاحة داخل البنوك، مما أثر على قدرة الدولة على تمويل مشاريعها.
محاولات إعادة تقديم العملة المحلية: من RTGS إلى ZiG
في 2019، أطلقت الحكومة ما يعرف بـ RTGS Dollar (دولار التسوية الإجمالية في الوقت الحقيقي)، وهو شكل رقمي من العملة الجديدة بهدف تقليل الاعتماد على العملات الأجنبية. تم تعويم سعر صرفه جزئيًا، لكن سرعان ما فقد قيمته مع ارتفاع الأسعار مجددًا.
في أبريل 2024، طرحت الحكومة الزيمبابوية عملة جديدة تُدعى ZiG، وهي اختصار لـ Zimbabwe Gold، مدعومة باحتياطيات من الذهب والعملات الصعبة في محاولة لإرساء الثقة. بلغ سعر صرفها عند الإصدار 13.56 ZiG مقابل الدولار الأمريكي، ورافق الإصدار حملة إعلامية موسعة لإقناع المواطنين بجدوى العودة إلى العملة المحلية.
التحديات الحالية والآفاق المستقبلية لعملة زيمبابوي
رغم أن إطلاق ZiG ساعد في تقليل وتيرة التضخم إلى حدٍ ما، إلا أن السوق الموازية لا تزال نشطة. ففي مايو 2025، تباين سعر الصرف الرسمي عند 26.9 ZiG مقابل الدولار، بينما تجاوز 38 ZiG في السوق السوداء. هذا التفاوت يعكس عدم ثقة شريحة واسعة من المواطنين في العملة، وهو ما يمثل التحدي الأكبر للحكومة.
ترتبط مستقبل العملة بقدرة الدولة على ضبط الإنفاق العام، تعزيز الاحتياطي النقدي، وتقليل الاعتماد على الواردات. كما أن نجاح العملة الجديدة يتطلب من الحكومة تعزيز الشفافية، ومنح البنك المركزي استقلالية حقيقية، مع تقوية القطاع الإنتاجي وخصوصًا الزراعة والتعدين، لخلق مصادر دخل وطنية مستقلة.
المشهد النقدي اليومي في زيمبابوي
في حياة المواطن اليومية، يستمر استخدام الدولار الأمريكي في شراء الوقود، دفع الإيجارات، وسداد بعض الخدمات الأساسية. بينما تُستخدم ZiG في المعاملات الصغيرة، ويُجبر العديد من أصحاب المتاجر على قبولها رغم ميلهم إلى العملات الصعبة. هذا التعايش النقدي يعكس الانقسام بين ما تفرضه الحكومة وما يثق به المواطن.
كما تشهد الأسواق حالة من التقلبات المستمرة في الأسعار، حيث يلجأ كثير من المواطنين إلى تحويل مدخراتهم إلى سلع أو عملات مستقرة، خشية التدهور المفاجئ للعملة الجديدة. فيما يعاني المتقاعدون وذوو الدخل الثابت من ضعف قدرتهم الشرائية.
خاتمة: دروس مستفادة من تجربة زيمبابوي النقدية
قصة عملة زيمبابوي تروي فصلاً صعبًا في تاريخ بلد غني بالموارد وفقير في الإدارة. لقد أظهرت الأزمة النقدية أن فقدان الثقة في العملة يوازي انهيار النظام المالي برمّته. وبينما تحاول زيمبابوي اليوم ترميم ما تهدم، فإن إعادة بناء ثقة المواطنين تظل الخطوة الأهم والأصعب. ومهما كانت الجهود التقنية فعالة، لن تنجح دون مصداقية سياسية ومؤسسية تضع استقرار الاقتصاد فوق كل اعتبار.