أسباب التعلق العاطفي المؤذي

التعلق العاطفي هو شعور طبيعي يتولد من الحاجة إلى القرب والارتباط بالآخرين، وهو جانب إنساني ضروري للتوازن النفسي والاجتماعي. غير أن هذا التعلق قد ينحرف عن مساره الطبيعي ليصبح عبئًا نفسيًا وضغطًا عاطفيًا في حال تطوره إلى شكل مؤذٍ، حيث يتحول إلى اعتماد مرضي على الآخر ويفقد فيه الشخص قدرته على التوازن العاطفي بمفرده. هذا المقال يستعرض أبرز الأسباب التي تقف خلف التعلق العاطفي المؤذي، مع التوسع في تحليل خلفياته النفسية والاجتماعية وتأثيره على العلاقات.

جروح الطفولة والتجارب المبكرة

تشير الدراسات النفسية إلى أن نوعية العلاقة التي تنشأ بين الطفل ومقدمي الرعاية تلعب دورًا محوريًا في تشكيل أنماط التعلق لاحقًا في الحياة. الطفل الذي لا يشعر بالأمان، أو الذي يتعرض للإهمال أو التخلي، قد يكبر وهو يحمل داخله شعورًا دائمًا بالخوف من الفقد. هذا الخوف يتحول لاحقًا إلى تعلق مرضي بشريك الحياة أو أي شخص يوفر له إحساسًا مؤقتًا بالأمان. ومن هنا يبدأ الشخص في البحث المستمر عن من يؤكد له أنه لن يُهجر مجددًا.

غياب الهوية الشخصية المستقلة

بعض الأفراد ينمون دون تطوير هوية ذاتية مستقلة، فينشأ لديهم اعتماد مفرط على الآخرين لتحديد قيمتهم وتوجيه قراراتهم. هذا النقص في الوعي الذاتي يجعلهم يبحثون عن شخص يملأ هذا الفراغ، وغالبًا ما يكون شريك الحياة هو المرشح الرئيسي. وبدلاً من أن تكون العلاقة مبنية على التوازن، تصبح علاقة اختلال يذوب فيها الفرد في الآخر ويضحي باحتياجاته ومبادئه.

تدني احترام الذات والبحث عن التقدير الخارجي

يُعد تدني احترام الذات من المحركات الأساسية للتعلق المؤذي، حيث يشعر الشخص بأنه غير كافٍ أو غير جدير بالحب إلا إذا كان مرتبطًا بشخص آخر يقدره. هذا النوع من التفكير يجعل الشخص مستعدًا لقبول الإهمال أو حتى الإساءة، فقط ليحتفظ بالعلاقة التي تمنحه الشعور المؤقت بالقيمة. ويزداد الأمر سوءًا عندما يربط الشخص بين وجوده ومكانته العاطفية لدى الطرف الآخر.

الخوف العميق من الهجر

هذا النوع من الخوف لا ينبع من المواقف الحالية فحسب، بل يتغذى على مواقف قديمة من الخذلان أو الفقد. ويؤدي هذا إلى القلق المستمر من أن يُتخلى عنه في أي لحظة، ما يدفعه للتشبث بالشريك بشكل مبالغ فيه. وقد يعبر عن ذلك بالتملك، والغيرة الزائدة، والرقابة، وكثرة المطالبة بالتطمينات.

البيئة العاطفية غير المستقرة

بعض الأشخاص نشؤوا في منازل يسودها الاضطراب العاطفي وعدم الاستقرار، كوجود والدين دائمَي الخلاف أو غير متواجدين نفسيًا. في هذه البيئة، يتعلم الطفل أن الحب مقترن بالتقلبات، فينشأ وهو يربط بين الحب والألم أو الانجذاب لمن يسبب له القلق. وعندما يكبر، قد يجد نفسه مستريحًا في علاقات غير مستقرة دون أن يدرك أن ذلك نابع من نمط تعلمه منذ الطفولة.

الاعتماد على العلاقة كمصدر للسعادة

من أكثر أشكال التعلق المؤذي شيوعًا هو أن يعتمد الفرد على العلاقة لتكون المصدر الرئيسي لسعادته ومعناه في الحياة. يصبح وجود الشريك هو معيار الفرح أو الحزن، وتتحول الحياة إلى تقلبات مزاجية بناءً على مزاج الطرف الآخر. وفي حال حدوث أي خلاف، يدخل الشخص في حالة انهيار لأنه يشعر أن عالمه قد تلاشى.

نمط التعلق القلق

وفقًا لنظرية التعلق، يُعد نمط التعلق القلق أحد أكثر الأنماط عرضة للتعلق المؤذي. حيث يتميز أصحابه بالحاجة المستمرة للتطمين والخوف من الابتعاد، مما يجعل العلاقة مرهقة للطرفين. وغالبًا ما يتسبب هذا التعلق في نشوء صراعات بسبب التوقعات العالية والاحتياج المفرط.

الاعتقاد بأن الحب يجب أن يُؤلم

تعزز بعض الأفلام والمسلسلات والموروثات الثقافية فكرة أن الحب الحقيقي يجب أن يُعاش بصعوبة، ويكون مليئًا بالتحديات والصراعات. هذه القناعة الخاطئة تجعل البعض يعتقدون أن العلاقة الصحية مملة، فيبحثون عن الإثارة في علاقات سامة تملؤها التقلّبات، مما يديم دائرة التعلق المؤذي.

الختام والتحرر من التعلق المؤذي

إن فهم أسباب التعلق العاطفي المؤذي هو الخطوة الأولى نحو التحرر منه. يتطلب الأمر وعيًا عميقًا بالجذور النفسية والسلوكية التي تدفع الشخص لهذا النمط، بالإضافة إلى العمل على تقوية الذات وتعزيز الاستقلالية العاطفية. لا يمكن للعلاقات أن تكون صحية ما لم يكن كل طرف فيها مكتفيًا بذاته قبل أن يشارك حياته مع الآخر. فالعلاقة الناجحة لا تكون ملاذًا للهروب من الذات، بل مساحة للتكامل والنمو.