والد وسيم قزق

في عالم الفن السوري الذي يزخر بالأسماء اللامعة والمواهب المبدعة، يبرز اسم محمد وحيد قزق، والد الفنان الشاب وسيم قزق، كأحد الشخصيات المؤثرة والملهمة في الوسط الفني. لم يكن مجرد والد لفنان صاعد، بل كان هو نفسه جزءًا من البنية الإبداعية للحركة الفنية السورية، من خلال عمله في تصميم الديكور المسرحي، وتفانيه في تربية أولاده في ظروف معقدة. هذا المقال يستعرض تفاصيل حياة محمد قزق، أثره الإنساني، ودوره في تشكيل مسيرة ابنه الفنية.

محمد وحيد قزق: رحلة فنية حافلة بالعطاء

وُلد محمد وحيد قزق في اللاذقية، المدينة الساحلية ذات الحضور الثقافي الكبير. ومنذ شبابه، أبدى اهتمامًا واضحًا بالفنون المسرحية، لكنه لم يتجه للتمثيل كما فعل شقيقه فايز قزق، بل اختار الجانب الجمالي خلف الكواليس، وتخصص في تصميم الديكور المسرحي. عمله كان يتميز بالدقة، الحس الفني العالي، والقدرة على تحويل النصوص المكتوبة إلى فضاءات مرئية تنبض بالحياة.

صمم محمد قزق العديد من الديكورات المسرحية المهمة، بالإضافة إلى مشاريع خاصة في تصميم المنازل والديكورات الداخلية، مما جعله يحظى بسمعة طيبة كمصمم موهوب ومتجدد. كان يُعرف في الوسط الفني بأنه رجل الظل، الذي يصنع الأثر دون أن يظهر كثيرًا أمام الكاميرا.

دور الأبوة: تربية وسيم ولوريس قزق

في موقف إنساني نادر، قرر محمد قزق بعد انفصاله عن زوجته أن يكرّس حياته لتربية توأمه وسيم ولوريس. لم يتزوج مرة أخرى، بل تحمّل بمفرده مسؤولية التربية، وهو ما يُعد تحديًا حقيقيًا لأي أب. اهتم بتنشئتهما ثقافيًا وفنيًا، وحرص على أن يرافقاه في عروضه المسرحية ويشاهدا الكواليس ويتعرفا على بيئة الفن منذ الصغر.

كانت تربيته صارمة من جهة، لكنها مليئة بالمحبة والدفء من جهة أخرى. ساعد وسيم في اكتشاف شغفه بالقراءة والمسرح، وكان الداعم الأول له، يشتري له الكتب، ويصطحبه إلى العروض، ويناقش معه المواضيع الفنية. حتى لوريس، شقيقته التوأم، قالت في مقابلة إنها ترعرعت بلا أم، لكنها لم تشعر يومًا بالنقص بوجود والدها.

تأثير محمد قزق على مسيرة وسيم الفنية

اختار وسيم قزق أن يسير في درب الفن، لكنه لم يدخل هذا العالم صدفة، بل بدفع وتشجيع من والده. التحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق، وكان والدُه دائم الحضور في تفاصيل مسيرته. لم يكتف محمد قزق بتوفير الدعم العاطفي، بل قدّم له البيئة الملائمة للتطور: النقاش، الحوار، المساحة الحرة للتعبير.

تأثر وسيم أيضًا بعمه فايز قزق، لكن التأثير الأكبر كان لوالده. وقد أشار وسيم في لقاء تلفزيوني إلى أن لولا والده لما قرأ أو فهم معنى المسرح بهذا العمق. هذا التأثير انعكس لاحقًا في أعماله، خصوصًا في أدواره المركبة مثل شخصية “أبو الوليد” في مسلسل “الهيبة”، وأيضًا في عمله الأكاديمي كمدرّس للتمثيل في المعهد العالي.

وفاة محمد قزق: خسارة كبيرة للوسط الفني

توفي محمد وحيد قزق في 20 مايو 2022 عن عمر ناهز 63 عامًا، بعد مسيرة طويلة من العطاء الفني والتربوي. خبر وفاته نزل كالصاعقة على الوسط الفني السوري، حيث نعاه كبار الفنانين، وأشادوا بخلقه وفنه وصدقه في الحياة والعمل. دُفن في اللاذقية، وتقبلت عائلته العزاء في قريته ومن ثم في دمشق، حيث تجمّع محبوه من كل الأطياف.

لم تكن خسارته عادية، لأنه لم يكن فقط مصمم ديكور، بل كان أبًا استثنائيًا، ورب أسرة ملهمًا، وفنانًا ترك أثرًا لا يُمحى في ذاكرة المسرح السوري. كان صاحب مبادئ، محبًا للبساطة، يرفض الشهرة الزائفة، ويؤمن بأن الفن الحقيقي ينشأ من الصدق الداخلي.

إرث محمد قزق: استمرار المسيرة الفنية

على الرغم من رحيله، فإن محمد قزق حيّ في ذاكرة الوسط الفني وفي مسيرة ولديه. وسيم يستكمل الطريق الذي بدأه والده، ليس فقط كممثل، بل كمعلّم وناقل لقيم مسرحية أصيلة. أما لوريس، فهي أيضًا تتابع طريقها الفني بنجاح، متحدّثة دوماً عن فضل والدها في صقل شخصيتها واستقلالها.

إن قصة محمد قزق هي مثال نادر لرجل قرر أن يكون كل شيء في حياة أولاده: الأب، المربي، الداعم، والقدوة. إرثه الحقيقي ليس فقط في خشبات المسارح التي صممها، بل في القلوب التي شكلها، والعقول التي ألهمها، والعائلة التي تربت على يديه.

نظرة تحليلية: ماذا نتعلم من تجربة محمد قزق؟

من خلال مسيرة محمد قزق، نتعلم أن دور الأب لا يقتصر على توفير الاحتياجات المادية، بل يشمل بناء الإنسان، ثقافيًا ونفسيًا وفكريًا. لقد اختار أن يكون حاضنًا لحياة فنية وعاطفية متكاملة، فغرس في ابنه وابنته ليس فقط حب الفن، بل القدرة على أن يكونا مستقلين، شغوفين، ومخلصين لما يفعلون.

تجربة محمد قزق تلهم كل أب وأم في العالم العربي بأن التربية قد تكون عملًا فنيًا بحد ذاته، وأن بناء إنسان واعٍ، مثقف، وقادر على التعبير عن نفسه، هو من أسمى أشكال النجاح في هذه الحياة.