العرب في سيراليون

تُعد سيراليون من الدول التي احتضنت عبر تاريخها المعاصر جالية عربية نشطة ومؤثرة، خاصة من اللبنانيين والسوريين الذين استقروا هناك منذ أكثر من قرن. هذا التواجد العربي لم يكن عابرًا، بل امتد ليشكل ملامح اقتصادية واجتماعية وثقافية ظاهرة في قلب المجتمع السيراليوني، وبالأخص في العاصمة فريتاون. في هذا المقال، نستعرض مسار العرب في سيراليون، منذ بدايات هجرتهم وحتى يومنا هذا، ونتوقف عند أبرز المحطات التي شكّلت علاقتهم بالبلد.

الهجرة العربية إلى سيراليون: البدايات والتحديات

بدأت الهجرة العربية إلى سيراليون في أواخر القرن التاسع عشر، وتحديدًا في حقبة ما بعد الاحتلال البريطاني، حين جذبت الدولة الإفريقية تجارًا وباحثين عن الفرص من مختلف أنحاء العالم. اللبنانيون، لا سيما من منطقة الجنوب والبقاع، كانوا في طليعة الوافدين نتيجة للأزمات الاقتصادية والسياسية في بلادهم، مثل تدهور زراعة الحرير وضيق الحال في ظل الحكم العثماني. سافر كثير من هؤلاء عن طريق موانئ غرب إفريقيا واستقروا في فريتاون ومدن أخرى مثل بو وكونو وكينيما. ورغم صعوبة التأقلم مع البيئة والمناخ والتقاليد المحلية، إلا أنهم أظهروا قدرة كبيرة على التكيف.

الدور الاقتصادي للجالية اللبنانية في سيراليون

لم يكن حضور العرب في سيراليون وجودًا هامشيًا، بل لعبوا دورًا محوريًا في تحريك عجلة الاقتصاد المحلي. بدأوا بأنشطة بسيطة كالبقالة وتجارة الأقمشة، ثم تطوروا سريعًا ليهيمنوا على قطاعات واسعة من التجارة. أنشأوا شركات استيراد وتوزيع، واستثمروا في قطاعات مثل الألماس، والنقل، والخدمات، وحتى الإعلام. وقد ساهمت هذه الديناميكية في خلق فرص عمل كثيرة للسيراليونيين أنفسهم. ومن أشهر العائلات اللبنانية التي برزت اقتصاديًا هناك: عائلة صفا، خوري، وبيطار، والتي أصبح لها نفوذ واسع داخل المؤسسات الاقتصادية للدولة.

الاندماج الثقافي والاجتماعي للجالية العربية

رغم حرص العرب، خاصة اللبنانيين، على الاحتفاظ بهويتهم الثقافية والدينية، إلا أنهم لم يعيشوا بمعزل عن المجتمع المحلي. فقد تزاوج البعض منهم مع سكان سيراليون الأصليين، وشاركوا في مناسباتهم الاجتماعية، وتحدثوا لغتهم. كما أسسوا مدارس ومراكز تعليمية تُدرّس العربية والفرنسية والإنجليزية، وشيدوا مساجد في أحياء فريتاون مثل مسجد الجمعية الإسلامية، ومؤسسات خيرية مثل الهلال الأحمر اللبناني. وبرز عدد من أبناء الجالية في مجال التعليم والسياسة، حتى أن بعضهم تولّى مناصب عامة في الحكومة السيراليونية.

عدد العرب وجنسياتهم في سيراليون

يُقدَّر عدد العرب المقيمين في سيراليون بحوالي 11,000 شخص، وتتركز الغالبية العظمى منهم في العاصمة فريتاون والمدن الاقتصادية الكبرى مثل كينيما وبو. ويُشكّل اللبنانيون النسبة الأكبر من هذه الجالية، إذ يعود معظمهم إلى مناطق الجنوب والبقاع في لبنان، وقد بدأ توافدهم إلى البلاد منذ أواخر القرن التاسع عشر. كما توجد جاليات عربية أخرى بأعداد أقل مثل السوريين والفلسطينيين. وتلعب هذه الجاليات دورًا محوريًا في قطاع التجارة والأعمال، ويُلاحظ تواجد أسمائهم على المؤسسات والمحلات التجارية في مختلف أرجاء البلاد. ووفقًا للتقديرات، فإن الجالية اللبنانية وحدها تمثل نحو 0.13٪ من سكان البلاد، الذين يُقدَّر عددهم بنحو 8.5 مليون نسمة.

التحديات السياسية والقانونية التي واجهتها الجالية

رغم التقدير العام لدور الجالية، إلا أن العرب في سيراليون واجهوا فترات صعبة، أبرزها خلال الحرب الأهلية (1991–2002) التي ألحقت أضرارًا جسيمة بمصالحهم. تعرضت متاجرهم للنهب والسرقة، واضطر الكثيرون لمغادرة البلاد نحو لبنان أو دول إفريقية مجاورة، كما صودرت بعض ممتلكاتهم أو علقت أنشطتهم. كما واجهوا صعوبات قانونية في ما يخص الجنسية، إذ بقي بعض أبناء العرب لسنوات طويلة دون وثائق تثبت انتماءهم، مما حدّ من فرصهم التعليمية والمهنية.

الحضور العربي في سيراليون اليوم

في الوقت الراهن، استعادت الجالية العربية كثيرًا من حضورها القوي، خاصة في العاصمة فريتاون. وتظهر الأسماء العربية على لوحات المتاجر والمؤسسات التجارية، كما أعادت بعض العائلات استثماراتها في مجالات مثل السياحة والطاقة. هناك أيضًا اهتمام متزايد لدى الجيل الثاني والثالث من أبناء العرب بالحفاظ على الهوية الأصلية، من خلال الجمعيات الثقافية والدورات اللغوية والدينية. وبفضل علاقاتهم التجارية القوية، حافظ العرب على موقعهم كحلقة وصل بين السوق السيراليوني والأسواق اللبنانية والخليجية.

الهوية والانتماء لدى الأجيال الجديدة

يواجه أبناء الجيل الجديد من العرب في سيراليون تحديًا مركبًا يتمثل في التوفيق بين الانتماء لوطنهم الأم “لبنان أو سوريا”، وانتمائهم الفعلي إلى بلد نشأوا فيه ويعيشون تفاصيله اليومية. كثير منهم لا يتحدث العربية بطلاقة، ويعتبر نفسه سيراليونيًا أولًا. ومع ذلك، فهناك وعي متزايد بأهمية الحفاظ على الجذور، مما يفسر تنامي المبادرات الشبابية للتعريف بالثقافة العربية.

خاتمة: جسر دائم بين العرب وسيراليون

إن حضور العرب في سيراليون يتجاوز كونه مجرد تواجد مهاجرين في دولة إفريقية، ليصبح نموذجًا لنجاح الاندماج والتأثير الحضاري المتبادل. ورغم ما واجهته الجالية من تحديات سياسية واقتصادية، فإنها أثبتت مرونة وقدرة على التكيف والاستمرار. واليوم، لا تمثل الجالية مجرد ماضٍ يُحتفى به، بل حاضرًا نابضًا ومستقبلاً واعدًا في قلب غرب أفريقيا.