العمل في سوريا

يمر سوق العمل في سوريا بمرحلة دقيقة تجمع بين التحديات الكبرى والفرص المحتملة. فمنذ اندلاع الأزمة في عام 2011، تأثر الاقتصاد السوري على نحو بالغ، مما انعكس بشكل مباشر على واقع التوظيف والدخل ومعيشة المواطنين. إلا أن السنوات الأخيرة، لا سيما عام 2024 وبداية 2025، حملت بعض المؤشرات الإيجابية المحدودة في ظل الجهود الحكومية والمبادرات المحلية لتحفيز السوق وتحسين أوضاع القوى العاملة.

سوق العمل في سوريا: واقع معقد وتحديات مستمرة

يُعد سوق العمل السوري اليوم واحدًا من أكثر الأسواق تأثرًا بالعوامل السياسية والاقتصادية، حيث أدت الحرب إلى تدمير البنية التحتية، وتعطيل الأنشطة الصناعية والتجارية، وهجرة الكفاءات. وتظهر الإحصائيات أن نسبة البطالة وصلت إلى قرابة 13% مع نهاية عام 2024، في حين تتفاوت هذه النسبة بشدة من محافظة لأخرى، ومن شريحة عمرية لأخرى. الشباب هم الأكثر تضررًا، إذ يُواجه معظمهم صعوبة في إيجاد فرص عمل مستقرة، خاصة مع غياب التخصصات المطلوبة وغياب التوافق بين سوق العمل والمخرجات التعليمية.

القطاعات الاقتصادية في سوريا: فرص وتحديات

تعتمد سوريا اقتصاديًا على قطاعات رئيسية أبرزها الزراعة والصناعة والخدمات. وتظل الزراعة واحدة من أهم مصادر الدخل في المناطق الريفية، لكنها تعاني من ضعف الري، ونقص المعدات، وهجرة الأيدي العاملة نحو المدن أو خارج البلاد. أما الصناعة، فقد بدأت بالانتعاش تدريجيًا، خاصة في حلب ودمشق وبعض المناطق الصناعية التي أُعيد تأهيلها. قطاع الخدمات، وعلى رأسه التعليم والصحة، ما زال هشًا، لكنه يشهد محاولات للتطوير من خلال برامج تمويل صغيرة ومتوسطة تستهدف تحسين الكفاءة التشغيلية وتوفير فرص عمل جديدة.

القطاع الخاص: دور متنامٍ في الاقتصاد السوري

مع تضاؤل قدرة القطاع العام على استيعاب مزيد من العاملين، برز القطاع الخاص كبديل حيوي. يقدم القطاع الخاص حاليًا نحو 70% من فرص العمل في البلاد، ويغطي قطاعات متعددة مثل الصناعات الغذائية، والألبسة، والخدمات التجارية والرقمية. كما بدأت مشاريع ريادية في مجالات التقنية والطاقة البديلة بالظهور، بفضل جهود بعض المستثمرين المحليين والدوليين. ورغم ضعف بيئة الاستثمار والبيروقراطية الثقيلة، إلا أن بعض التشريعات الجديدة جاءت لتمنح تسهيلات للمستثمرين، مع التركيز على دعم المشاريع التي توظف شبابًا ونساء.

الإصلاحات الاقتصادية: خطوات نحو التعافي

تبنت الحكومة السورية في السنوات الأخيرة سياسة إصلاح اقتصادي تدريجي شملت تعديل بعض القوانين الضريبية، ورفع الدعم الجزئي عن بعض المواد، وزيادة الرواتب، وتحسين أداء القطاعات الإنتاجية. ومن أبرز الإجراءات التي تم اتخاذها أيضًا، توحيد وزارة النفط والكهرباء في وزارة الطاقة، بما يعزز إدارة الموارد وتخصيصها بكفاءة. أُطلقت أيضًا مبادرات تمويل للشركات الصغيرة والمتوسطة عبر المصرف الصناعي، مع توجيه خاص نحو المناطق التي تضررت بشدة من الحرب، في محاولة لإعادة دمجها في الدورة الاقتصادية.

التحديات المستقبلية: الحاجة إلى استراتيجيات شاملة

ما تزال التحديات قائمة وبقوة، في مقدمتها ارتفاع تكاليف المعيشة، وتدني مستوى الدخل مقارنة بمعدلات التضخم، وغياب الاستقرار الأمني في بعض المناطق، مما يحد من توسيع النشاط الاقتصادي. يضاف إلى ذلك الفجوة الكبيرة بين مخرجات التعليم ومتطلبات السوق، ما يستدعي إعادة تأهيل القوى العاملة وتطوير المناهج التعليمية. كما يُعد ضعف البنية التحتية، خاصة في مجالات الكهرباء والمياه والنقل، عائقًا أمام جذب المستثمرين وإطلاق مشاريع منتجة. وتبقى الحاجة قائمة لسياسات تشغيل مرنة، تشجع على التوظيف غير التقليدي والعمل عن بُعد الذي بدأ يلقى رواجًا نسبيًا في السنوات الأخيرة.

التحويلات المالية والعمل الخارجي

تُشكل التحويلات المالية من المغتربين السوريين مصدر دعم رئيسي للاقتصاد المحلي وللأسر داخل البلاد. وتُقدّر التحويلات السنوية بنحو 1.6 مليار دولار، وتُساهم بشكل كبير في دعم الاستهلاك الداخلي وتمويل المشاريع الصغيرة. كما أن نسبة كبيرة من السوريين يعملون خارج البلاد، خصوصًا في دول الخليج وأوروبا، ويكتسبون مهارات مهنية يمكن الاستفادة منها في المستقبل إذا ما عادوا للمشاركة في بناء الاقتصاد المحلي. تسعى بعض المبادرات الحكومية إلى ربط هؤلاء الكفاءات بالمشاريع الوطنية من خلال منصات إلكترونية ومراكز دعم المنتشرين السوريين في الخارج.

الخلاصة: طريق طويل نحو التعافي

العمل في سوريا ما زال مرهونًا بتحقيق الاستقرار الأمني، ونجاح خطط الإصلاح الاقتصادي، وتوفير بيئة تشريعية واستثمارية جاذبة. ورغم الصورة القاتمة التي خلفتها سنوات الحرب، إلا أن هناك حراكًا حقيقيًا على مستويات متعددة يشير إلى بداية مرحلة جديدة عنوانها العمل والإنتاج والتعافي. يتطلب ذلك تضافرًا بين الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني، واستغلالًا أمثل للموارد المتاحة، خاصة الطاقات البشرية التي تمثل رأس المال الأهم في مسيرة إعادة بناء سوريا الحديثة.