تلعب مسألة الدين الرسمي في سوريا دورًا محوريًا في فهم طبيعة النظام السياسي والاجتماعي، خاصة في ظل التغيرات العاصفة التي مرت بها البلاد خلال العقود الماضية. فالموقع الذي يشغله الدين في الدساتير السورية المتعاقبة يعكس توجهات الأنظمة التي حكمت البلاد، وطريقة تعاملها مع التعددية الدينية والطائفية. وتزداد أهمية هذا الموضوع في اللحظة الراهنة، لا سيما بعد سقوط نظام بشار الأسد عام 2025، وصدور إعلان دستوري جديد يعيد رسم العلاقة بين الدين والدولة. في هذا المقال الموسّع، نستعرض أبعاد هذه القضية الشائكة، متناولين الجوانب الدستورية والسياسية والاجتماعية المرتبطة بالدين الرسمي في سوريا، بالإضافة إلى رصد ردود الأفعال والمواقف المختلفة من مكونات المجتمع السوري تجاه النصوص الجديدة.
أقسام المقال
الدين في الدساتير السورية: من التأسيس إلى التعديل
منذ نشأة الدولة السورية الحديثة، حملت الدساتير إشارات واضحة إلى موقع الدين ضمن بنية الحكم، وإن اختلفت الصياغات باختلاف السياقات السياسية. فدستور عام 1930 الذي أُقر تحت الانتداب الفرنسي، نص بشكل مقتضب على أن دين رئيس الجمهورية هو الإسلام، دون الإشارة إلى دين رسمي للدولة. وبعد الاستقلال، أتى دستور عام 1950 ليؤكد ذات الصيغة مع تعزيز الحريات الدينية. أما في عهد حافظ الأسد، شهد دستور عام 1973 تطورًا كبيرًا بإضافة مادة تنص على أن “الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع”، ما مثّل خطوة باتجاه ربط النظام القانوني بالإرث الديني الإسلامي. هذا التوجه ظل مستمرًا في دستور 2012، وإن كان قد حافظ أيضًا على ضمان حرية الأديان والعبادات ضمن أطر معينة.
الإعلان الدستوري لعام 2025: تجديد أم استمرارية؟
في مرحلة ما بعد سقوط النظام السابق، كان لزامًا على السلطات الانتقالية أن تضع إطارًا قانونيًا لإدارة الدولة. وقد جاء الإعلان الدستوري لعام 2025 ليكون هذا الإطار، حيث نصت المادة الرابعة منه على أن “دين رئيس الجمهورية هو الإسلام، والفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع”، مما يعكس استمرارًا للنهج السابق، ولكن ضمن سياق سياسي جديد يسعى لتجنب الصدامات الطائفية. ورافقت هذه المادة تأكيدات واضحة على حماية حقوق الأقليات واحترام الحريات الدينية، الأمر الذي يدل على محاولة الموازنة بين الحفاظ على الطابع الإسلامي للسلطة السياسية وبين واقع التعددية في سوريا.
التحديات والانتقادات: بين الهوية الوطنية والتعددية الدينية
لم يمر الإعلان الجديد دون إثارة الجدل، خصوصًا من قبل الأقليات الدينية في سوريا، التي عبرت عن قلقها من استمرار اشتراط الإسلام في منصب الرئاسة، واعتبار الفقه الإسلامي مصدرًا رئيسيًا للتشريع. فقد اعتبر كثيرون أن هذا قد يؤدي إلى تهميش المواطنين غير المسلمين ويجعلهم في موقع دستوري أدنى، بالرغم من النصوص التي تؤكد على المساواة. البعض اعتبر أن الإبقاء على هذه المواد يمثّل تناقضًا مع مبدأ المواطنة الكاملة. وفي المقابل، يرى المؤيدون أن هذه المواد تعكس الغالبية الديمغرافية للمسلمين في البلاد، وأنها لا تتعارض مع احترام الحقوق الفردية طالما أن ذلك مضمون في مواد أخرى في الإعلان.
الواقع الديني في سوريا: تنوع وتعايش
تتميز سوريا بمشهد ديني غني ومتعدد، حيث يشكل المسلمون السنة الأغلبية السكانية، إلى جانب حضور قوي للطائفة العلوية، والدروز، والإسماعيليين، والشيعة الاثني عشرية. كما تضم سوريا عددًا كبيرًا من الطوائف المسيحية المتنوعة كالأرثوذكس، والكاثوليك، والبروتستانت، إضافة إلى جماعات صغيرة مثل الأيزيديين واليهود. هذا التعدد لم يكن يومًا مصدر صراع دائم، بل شهدت سوريا فترات طويلة من التعايش والاندماج الثقافي والديني. إلا أن العقود الأخيرة، خاصة مع تصاعد الصراع بعد عام 2011، شهدت توترات طائفية متزايدة غذتها السياسات الأمنية القمعية وخطابات التحريض، ما أدى إلى تعميق الانقسامات الدينية والطائفية.
آفاق المستقبل: نحو دستور دائم يعكس التعددية
ينتظر السوريون نهاية المرحلة الانتقالية بفارغ الصبر، حيث يُفترض أن يتم إعداد دستور دائم يعكس تطلعات جميع فئات الشعب. مسألة الدين ستكون في صلب النقاش الدستوري، حيث تطرح بعض القوى المدنية والعلمانية خيار إلغاء النصوص الدينية بالكامل من الدستور، مقابل من يدعو إلى الإبقاء على هوية إسلامية للدولة ولكن بصياغات أكثر مرونة. البعض يطالب بفصل الدين عن الدولة بشكل كامل، مع الإبقاء على حق الأفراد في ممارسة شعائرهم بحرية، فيما يقترح آخرون تبني نموذج مدني مشابه للنموذج التونسي أو اللبناني مع تعديلات تلائم السياق السوري. ومن المرجح أن تحسم هذه القضية من خلال حوار وطني موسّع يراعي التركيبة الاجتماعية والدينية للبلاد، ويعتمد على التوافق بدل الإقصاء.
دور رجال الدين والمؤسسات الدينية في التوجيه السياسي
إلى جانب النصوص القانونية، تلعب المؤسسات الدينية في سوريا دورًا سياسيًا واجتماعيًا ملحوظًا، سواء من خلال الفتاوى، أو المشاركة في التوجيه العام، أو عبر التأثير على الرأي العام. ففي المرحلة الانتقالية، حرصت بعض المرجعيات الدينية على دعم الاستقرار والحوار، في حين تبنّت أطراف أخرى خطابات متشددة زادت من الانقسام. مستقبل الدولة السورية بحاجة إلى إطار قانوني يحد من تدخل الدين في السياسة، ويحصر دور رجال الدين في الإرشاد الديني دون أن يتحولوا إلى لاعبين سياسيين مباشرين.
خاتمة
يبقى موضوع الدين الرسمي في سوريا من أكثر القضايا حساسية وإثارة للجدل، خصوصًا في مرحلة التأسيس الدستوري الجديدة. فبين الرغبة في الحفاظ على هوية إسلامية تعكس الأغلبية، والحاجة إلى دستور مدني يضمن المساواة، تقف سوريا أمام خيار تاريخي حاسم. إن نجاح المرحلة القادمة يتطلب شجاعة في طرح الأسئلة الصعبة، وواقعية في التعامل مع الحقائق الديمغرافية والثقافية، وأهم من ذلك كله، إرادة سياسية حقيقية لصياغة دستور يعكس سوريا المستقبل: دولة مدنية، ديمقراطية، تحترم الإنسان قبل أي انتماء ديني أو طائفي.