الدين الرسمي في روسيا

تُعد روسيا دولة متعددة الثقافات والمعتقدات، وتاريخها الديني يعكس قرونًا من التحولات السياسية والاجتماعية والروحية. ورغم أن الدستور الروسي ينص على علمانية الدولة، إلا أن الممارسة الفعلية تُظهر مكانة متميزة لبعض الديانات، وعلى رأسها الأرثوذكسية الروسية. ومع تزايد الاهتمام بالشأن الديني في روسيا في السنوات الأخيرة، أصبح من المهم فهم الخلفية الدينية لهذا البلد، وأبرز الديانات فيه، وموقع الدين من الدولة والمجتمع. هذا المقال يستعرض بشكل معمّق الدين الرسمي في روسيا، وطبيعة العلاقة بين الدين والدولة، والتعددية الدينية، إضافة إلى التحولات التاريخية والمواقف الاجتماعية الحديثة من المعتقدات.

الدين الرسمي في روسيا

بموجب الدستور الروسي الذي تم اعتماده عام 1993، لا يوجد دين رسمي في روسيا، حيث تنص المادة 14 بوضوح على أن “الدولة علمانية، ولا يجوز فرض أي ديانة كدين رسمي”. رغم ذلك، تُعامل الكنيسة الأرثوذكسية الروسية بوصفها الدين التقليدي والأكثر تمثيلاً للهوية الثقافية والتاريخية للبلاد، وتحظى بدعم سياسي ومؤسساتي واسع النطاق. يظهر هذا الدعم في التعاون المستمر بين السلطات والكنيسة، ومشاركتها في المناسبات الوطنية، والتعليم الديني في المدارس، واستخدام الرموز الدينية في الخطاب العام.

الأرثوذكسية الروسية: الدين السائد في روسيا

تُعتبر الأرثوذكسية الروسية أوسع الديانات انتشارًا في البلاد، ويُقدّر أن أكثر من 60% من السكان يعرّفون أنفسهم على أنهم أرثوذكس. هذا الانتماء ليس بالضرورة دينيًا بقدر ما هو ثقافي، حيث أن نسبة من هؤلاء لا يشاركون فعليًا في الشعائر الدينية أو يرتادون الكنائس بشكل منتظم، بل يعتبرون الأرثوذكسية جزءًا من هويتهم القومية. يعود دخول المسيحية إلى روسيا إلى عام 988 ميلاديًا، عندما اعتنق الأمير فلاديمير الأول الدين المسيحي وقام بتعميد كييف، ومنذ ذلك الحين أصبحت الأرثوذكسية المرتبطة بالبطريركية الروسية هي الدين المهيمن.

الإطار القانوني للدين في روسيا

رغم أن روسيا تُعرّف نفسها كدولة علمانية، فإن قانون “حرية الضمير والجمعيات الدينية” لعام 1997 يُميز بين الديانات التقليدية وغيرها. تم الاعتراف بالأرثوذكسية، والإسلام، واليهودية، والبوذية كديانات تقليدية تُشكل جزءًا من الإرث التاريخي لروسيا، ويُسمح لها بالعمل بحرية نسبية. هذا التمييز القانوني يُؤثر بشكل مباشر على الوضع الإداري والمالي للجماعات الدينية، ويُسهل للأديان المعترف بها رسميًا الحصول على الدعم، بينما تواجه الجماعات غير المعترف بها قيودًا متزايدة.

العلاقة بين الكنيسة والدولة

في الواقع، العلاقة بين الكنيسة الأرثوذكسية والدولة الروسية وثيقة للغاية، على الرغم من الإطار الدستوري العلماني. تتجلى هذه العلاقة في التنسيق العلني بين كبار رجال الدين والمسؤولين الحكوميين، ودعم الكنيسة للمبادرات السياسية، لا سيما تلك المتعلقة بالهوية الوطنية والأسرة والقيم التقليدية. على سبيل المثال، كثيرًا ما يظهر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى جانب البطريرك كيريل في الاحتفالات الدينية الكبرى. كما أن الكنيسة تُستخدم لتبرير سياسات الدولة داخليًا وخارجيًا، وخاصة في الخطابات المرتبطة بالقومية الروسية.

التعددية الدينية في روسيا

بالرغم من الهيمنة الظاهرة للكنيسة الأرثوذكسية، فإن روسيا موطن لعدد كبير من الأديان الأخرى. المسلمون يشكلون ثاني أكبر مجموعة دينية، ويُقدر عددهم بين 14 إلى 23 مليون شخص، وهم ينتشرون بشكل خاص في شمال القوقاز وتتارستان وباشكورتوستان وموسكو. كذلك توجد جماعات بوذية، ولا سيما في جمهوريات كالميكيا وبورياتيا وتوفا. أما الجاليات الكاثوليكية والبروتستانتية واليهودية فتحتفظ بحضور أقل عددًا ولكنها نشطة في بعض المدن الكبرى. ومع ذلك، فإن هذه الأقليات غالبًا ما تواجه عراقيل بيروقراطية عند تسجيل مؤسساتها أو الحصول على تصاريح بناء.

التحولات الدينية في العصر الحديث

عاشت روسيا فصولًا دينية متناقضة في القرن العشرين. فخلال العهد السوفيتي، تم قمع الدين بشكل شامل، وأُغلقت الكنائس، وقُيّدت حرية التعبير الديني، وتمت ملاحقة رجال الدين. لكن بعد سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1991، شهدت روسيا نهضة دينية واضحة، تمثلت في إعادة فتح الكنائس، وزيادة تأثير رجال الدين، وإدماج الدين في الحياة الاجتماعية والسياسية. ومع مرور السنوات، تراجعت الممارسات الدينية المنظمة، بينما ظل الانتماء الديني يُعبّر عنه بشكل ثقافي أكثر منه شعائري.

الدين والتعليم والإعلام في روسيا

واحدة من أبرز تجليات الحضور الديني في الحياة العامة الروسية هو وجود برامج تعليم ديني اختياري في بعض المدارس الحكومية، حيث يمكن للطلبة اختيار دراسة أساسيات الأرثوذكسية أو أحد الأديان التقليدية الأخرى. كما تحظى الكنيسة الأرثوذكسية بحضور قوي في وسائل الإعلام الرسمية والخاصة، وتُمنح منصات للحديث عن القيم الاجتماعية والتوجيه الأخلاقي، خاصة في المناسبات الوطنية والدينية.

الخلاصة

في المحصلة، تُظهر روسيا نموذجًا فريدًا في التعامل مع الدين. فرغم غياب دين رسمي بحسب نص الدستور، فإن الكنيسة الأرثوذكسية تمارس دورًا كبيرًا يتجاوز الجانب الديني إلى التأثير في السياسات والقيم الوطنية. كما أن التعددية الدينية قائمة ولكن ضمن إطار تنظيمي يفضل الأديان التقليدية، ما يجعل من روسيا دولة ذات طابع ديني-ثقافي خاص، يوازن بين ماضيه السوفيتي العلماني وحاضره القومي المحافظ.