اللغة الرسمية في إيران

تُعد إيران دولة ذات نسيج ثقافي متشابك يعكس تاريخًا طويلًا من التعدد العرقي واللغوي، حيث تعيش على أراضيها مجموعات سكانية تنتمي إلى خلفيات مختلفة، لكل منها لغتها ولهجتها وتقاليدها. ورغم هذا التنوع الكبير، فقد اختارت الدولة الفارسية أن تجعل من اللغة الفارسية، أو ما يُعرف محليًا بـ”فارسي”، اللغة الرسمية للدولة منذ عدة قرون، وهو ما استمر حتى يومنا هذا من خلال الدستور والقوانين المنظمة. تلعب اللغة الفارسية دورًا محوريًا في النظام التعليمي والإداري، وفي وسائل الإعلام، وفي الخطاب الوطني العام، مما يجعلها أداة أساسية لترسيخ الهوية الإيرانية المُعاصرة.

الفارسية: اللغة الرسمية لإيران

اللغة الفارسية هي لغة هندوأوروبية ذات جذور عريقة، وقد تطورت من الفارسية القديمة التي كُتبت بها النقوش الأخمينية، مرورًا بالفارسية الوسطى الساسانية، وصولًا إلى الفارسية الحديثة المستخدمة اليوم في إيران وأجزاء من أفغانستان وطاجيكستان. تُكتب الفارسية اليوم بأبجدية مشتقة من العربية، تضم 32 حرفًا، وقد أُدخلت عليها تغييرات لتناسب الأصوات الخاصة باللغة. الفارسية ليست فقط لغة قانون ودولة، بل هي أيضًا لغة أدب راقٍ، فقد أنتجت شعراء كبار مثل حافظ الشيرازي وسعدي وجلال الدين الرومي، ما يجعلها ركيزة ثقافية راسخة في الحضارة الإيرانية.

اللغات الأخرى في إيران

إلى جانب الفارسية، تنتشر العديد من اللغات في مختلف أقاليم إيران، مثل التركية الأذرية في الشمال الغربي، الكردية في الغرب، البلوشية في الشرق، والعربية في إقليم خوزستان الجنوبي. هذه اللغات تُستخدم في الحياة اليومية، والمناسبات الاجتماعية، وبعض وسائل الإعلام المحلية، لكنها تظل مهمّشة على المستوى الرسمي. هذا التعدد اللغوي يعكس تنوعًا إثنيًا هائلًا، حيث يتعايش الأكراد، الأذريون، العرب، البلوش، والتركمان ضمن بوتقة وطنية واحدة، رغم التباين في الانتماءات اللغوية والثقافية.

السياسات اللغوية والتعليم

الدستور الإيراني يقر باستخدام اللغة الفارسية كلغة رئيسية في التعليم والإدارة، لكنه يسمح أيضًا بتدريس اللغات المحلية في المدارس، وهو أمر لم يُطبق بشكل فعّال في معظم المناطق، ما يجعل الكثير من اللغات المحلية مهددة بالاندثار التدريجي. المدارس في إيران تُدرّس جميع المواد باللغة الفارسية، ما يجعل الأطفال المنتمين إلى أقليات لغوية يواجهون تحديات تعليمية مضاعفة، خاصة في المراحل الأولى من التعليم، حيث يكون الفارق اللغوي عائقًا أمام الفهم الكامل للمحتوى.

اللغة والإعلام في إيران

يسيطر الإعلام الفارسي على المشهد الإعلامي في إيران، حيث تُبث النشرات الإخبارية والبرامج الثقافية والترفيهية باللغة الفارسية على مدار الساعة عبر القنوات الرسمية مثل قناة “IRIB”. مع ذلك، هناك محاولات خجولة لتمثيل اللغات المحلية من خلال برامج أسبوعية أو محطات إذاعية فرعية ناطقة بالأذرية والكردية والعربية، لكنها تظل محدودة في الانتشار والتأثير. الإعلام الرقمي، من خلال الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، فتح نافذة أوسع أمام الأقليات للتعبير بلغاتها الخاصة، وهو ما يُعد تطورًا مهمًا في السنوات الأخيرة.

اللغة والهوية الوطنية

تلعب اللغة الفارسية دورًا أساسيًا في بناء الهوية الوطنية الإيرانية، إذ ترتبط في الوعي الجمعي بفكرة الدولة المركزية، والتاريخ الإمبراطوري، والثقافة الفارسية التي تتجاوز الحدود القومية المعاصرة. هذا الارتباط جعل السلطات الإيرانية تُركز على تعزيز الفارسية في كل مفاصل الدولة، لكنها تواجه في المقابل مطالبات متزايدة من المكونات غير الفارسية بضرورة احترام تعدديتها اللغوية، ومنحها مساحة عادلة للتعبير عن نفسها في المؤسسات الرسمية والتعليمية.

الجهود المبذولة لحماية اللغات المحلية

في السنوات الأخيرة، ظهرت مبادرات أهلية تهدف إلى إحياء اللغات المحلية، من خلال إنشاء دورات تعليمية غير رسمية، وطباعة كتب تعليمية باللهجات غير الفارسية، فضلًا عن استخدام الإنترنت لنشر محتوى ثقافي بلغات الأقليات. بعض الجامعات بدأت مؤخرًا بفتح برامج بحثية في اللغويات المحلية، خاصة في كردستان وأذربيجان الغربية، كمحاولة لفهم وحفظ هذه اللغات قبل أن تندثر. مع ذلك، تظل هذه الجهود مشتتة وتعتمد غالبًا على مبادرات فردية، ما يجعلها عاجزة عن تشكيل تيار مؤثر دون دعم حكومي مباشر.

اللغة والدين في إيران

تلعب اللغة دورًا مهمًا أيضًا في السياق الديني داخل إيران، فإلى جانب الفارسية، تُستخدم العربية في النصوص الدينية، خاصة القرآن الكريم، وأحاديث النبي، وهو ما يجعل معظم الإيرانيين يتعلمون أساسيات العربية في المدارس. في المقابل، فإن المجتمعات السنية في المناطق الكردية والبلوشية تفضل استخدام لغاتها المحلية في الخطب والدروس الدينية، ما يعكس تقاطعًا بين الانتماء الديني والانتماء اللغوي. هذه الازدواجية تُضيف بُعدًا آخر لتعقيد المشهد اللغوي في البلاد.

خاتمة

رغم أن اللغة الفارسية تُمثل الرابط المشترك لجميع الإيرانيين وتؤدي وظيفة توحيدية في الدولة الحديثة، فإن تجاهل اللغات الأخرى التي تُعبّر عن مكونات ثقافية وعرقية أصيلة يُهدد هذا التماسك من الداخل. إن الاعتراف الحقيقي بالتنوع اللغوي في إيران لا يجب أن يُختزل في نصوص قانونية عامة، بل يجب أن يُترجم إلى سياسات تعليمية وإعلامية وإدارية فعلية تُراعي هذا الغنى الثقافي. مستقبل إيران اللغوي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمدى قدرتها على احترام هذا التنوع، وتحويله من تحدٍ إلى فرصة للتماسك والتكامل.