الدين الرسمي في كوريا الشمالية

عند الحديث عن كوريا الشمالية، غالبًا ما تُركّز التحليلات على الجوانب السياسية أو العسكرية أو حتى الاقتصادية، إلا أن الجانب الديني في هذه الدولة الغامضة لا يقل أهمية عن غيره. فالسؤال حول الدين الرسمي في كوريا الشمالية لا يُجيب فقط على الجانب العقائدي، بل يكشف عن شبكة معقدة من التوظيف السياسي، والسيطرة المجتمعية، وتشكيل الهوية الوطنية. في هذا المقال، نتناول بالدراسة والتحليل الأيديولوجيا الرسمية، والتوجهات الدينية داخل البلاد، والعلاقة بين الدولة والمعتقدات، وكل ما يتعلق بهذا الجانب غير التقليدي من كوريا الشمالية.

الأيديولوجيا الحاكمة: الجوتشي كبديل للدين في كوريا الشمالية

منذ تأسيس الدولة الكورية الشمالية عام 1948 على يد كيم إيل سونغ، لم يكن للدين التقليدي موقع رسمي في الحياة السياسية أو الاجتماعية. بل طُورت أيديولوجيا الجوتشي لتُصبح بمثابة الإطار العقائدي والبديل الديني. فهذه الأيديولوجيا لا تكتفي بالترويج للاعتماد على الذات سياسيًا واقتصاديًا، بل تتغلغل في تفاصيل الحياة اليومية وتُقدّم القائد على أنه رمز شبه مقدس.

الكتب المدرسية في كوريا الشمالية تُقدّم الجوتشي باعتبارها فلسفة عُليا، وتُربط بشكل مباشر بالزعيم، سواء كيم إيل سونغ، أو كيم جونغ إيل، أو الزعيم الحالي كيم جونغ أون. هذا التقديس المؤسس على الجوتشي يتجاوز العقيدة الدينية المعروفة، حيث تُقام احتفالات سنوية تُشبه الطقوس الدينية تُكرّس لميلاد الزعماء أو إنجازاتهم، وتحضر صورهم في المنازل والمكاتب والمدارس كما لو كانت أيقونات كنسية.

الحرية الدينية في كوريا الشمالية: بين النص الدستوري والواقع العملي

تنص المادة 68 من الدستور الكوري الشمالي على حرية العقيدة الدينية، مما يعطي انطباعًا أوليًا بأن الدولة تضمن التعددية الدينية. إلا أن الواقع العملي يُظهر نقيض ذلك تمامًا. فالحكومة تُخضع جميع الأنشطة الدينية لرقابة مشددة، ولا يُسمح إلا بالممارسات الدينية التي تُشرف عليها الدولة بالكامل.

لا توجد مؤسسات دينية مستقلة، بل تُدار المساجد والكنائس والمعابد من قبل لجان مرتبطة مباشرة بالحكومة، وغالبًا ما تُستخدم كواجهة لإظهار التعددية الدينية أمام الزوار الأجانب أو الوفود الدبلوماسية. أما المواطنون الذين يُمارسون شعائر دينية حقيقية دون إذن، فيُعرضون أنفسهم للملاحقة، والسجن، بل وأحيانًا الإعدام، وفقًا لشهادات منشقين وتقارير دولية.

تشوندوية: الدين الوحيد المعترف به رسميًا في كوريا الشمالية

تشوندوية، أو دين الطريق السماوي، هو الدين الوحيد الذي يُمكن القول إنه يحظى بقبول جزئي داخل بنية الدولة. تعود أصوله إلى القرن التاسع عشر، حيث نشأ كحركة اجتماعية تستلهم من المعتقدات الكونفوشيوسية والشامانية والبوذية. ويُركز هذا الدين على العدالة الاجتماعية، والمساواة، والسلام الروحي، وهو ما جعله مقبولًا لدى النظام في فترة معينة.

تأسس حزب أصدقاء الطريق السماوي ككيان سياسي يُمثّل أتباع هذه الديانة، ويُعد جزءًا من الجبهة الديمقراطية التي تُشكّل الهيكل الرمزي للتعددية السياسية في البلاد. ومع ذلك، فإن التشوندوية اليوم تُستخدم كأداة رمزية، تُخضعها الدولة لتوجهها الأيديولوجي وتُحجم أي نفوذ مستقل لها.

الديانات الأخرى في كوريا الشمالية: الوجود المحدود والرقابة الصارمة

تتواجد ديانات مثل البوذية والمسيحية بأعداد محدودة في كوريا الشمالية، إلا أن هذا الوجود يكاد يكون رمزيًا. يُسمح ببعض الكنائس الكاثوليكية والبروتستانتية في بيونغ يانغ، ولكنها لا تخدم فعليًا المجتمع المحلي، بل تُستخدم لاستقبال الوفود الأجنبية وإرسال إشارات للعالم الخارجي.

أما على أرض الواقع، فتُعد ممارسة أي دين خارج الإطار الرسمي خطرًا جسيمًا. فالمسيحيون الذين يُمسكون بكتاب مقدس أو يُمارسون الصلاة سرًا يُواجهون تهمًا بالخيانة والتآمر مع الغرب. ويُقدر أن هناك آلافًا من السجناء السياسيين الذين احتُجزوا بسبب ممارسات دينية، بعضهم في معسكرات عمل قاسية يُحظر دخول منظمات دولية إليها.

الاضطهاد الديني في كوريا الشمالية: تقارير وشهادات

تُجمع المنظمات الحقوقية العالمية على أن كوريا الشمالية تُعد من بين أسوأ الدول في ما يتعلق بالحرية الدينية. تقارير منظمة Open Doors وAmnesty International، وغيرهما من المؤسسات، تكشف عن ممارسات ممنهجة لقمع الدين بكل أشكاله.

يُشير بعض الشهود من اللاجئين إلى أن حيازة الإنجيل تُعامل كجريمة كبرى، وأن الأشخاص الذين يثبت عليهم هذا الفعل يُجبرون على الاعتراف علنًا ويُعرضون لتعذيب جسدي ونفسي. كما تُطبق سياسة العقاب الجماعي، حيث تُعاقب الأسرة بالكامل في حال ضبط أحد أفرادها يُمارس الدين في الخفاء.

الدين والتعليم في كوريا الشمالية: هندسة العقول منذ الطفولة

يُشكل النظام التعليمي في كوريا الشمالية أحد أبرز أدوات الدولة في ترسيخ العقيدة الرسمية وتهميش الدين التقليدي. منذ سنوات الدراسة الأولى، يُدرّس الأطفال مواد تمجد الزعيم، وتُصور عائلة كيم على أنهم منقذو الشعب ومرشدو الأمة.

لا يتعلم الطلاب شيئًا عن الأديان العالمية أو القيم الدينية التقليدية، بل يُعامل الدين كفكر رجعي مرتبط بالاستعمار أو الخيانة. وتُشجع الأنشطة المدرسية الأطفال على التبليغ عن الأهل أو الجيران في حال وجود مؤشرات على أي ممارسات دينية غير رسمية.

الاستنتاج: الدين في كوريا الشمالية كأداة للسيطرة السياسية

يتضح أن كوريا الشمالية لا تمتلك دينًا رسميًا تقليديًا، بل تخلق عقيدة سياسية متكاملة تُوظف لتكون بديلاً عن الدين، وتُستخدم لتعزيز الولاء للزعيم والدولة. تُمارس الدولة رقابة صارمة على الدين، وتُعاقب كل من يحاول الخروج عن الإطار المرسوم.

تشكل الجوتشي ديانة سياسية في جوهرها، ويُعتبر الزعيم رمزًا مقدسًا يتجاوز الشأن الدنيوي. أما الأديان الأخرى، سواء كانت بوذية أو مسيحية أو تشوندوية، فلا وجود فعليًا لها خارج نطاق السيطرة الرسمية. وهكذا، يتحول الدين في كوريا الشمالية من وسيلة روحية إلى أداة سياسية تهدف إلى إحكام القبضة على المجتمع، وضمان استمرار الولاء للنظام الحاكم.