المهن المطلوبة في كوريا الشمالية

عند الحديث عن كوريا الشمالية، غالبًا ما ينصرف الذهن إلى الانعزال السياسي والانضباط الأيديولوجي، لكن خلف هذا المشهد المغلق توجد منظومة اقتصادية قائمة تُحركها الحاجة إلى تخصصات ومهارات محددة. في بلدٍ يعاني من عقوبات اقتصادية وعزلة شبه كاملة عن العالم الخارجي، تصبح بعض المهن محورية لاستمرار النظام وتحقيق قدر من الاكتفاء الذاتي. ورغم شح المعلومات وصعوبة الوصول إلى بيانات موثوقة، فإن بعض التقارير وشهادات الهاربين تشير إلى وجود طلب ملحوظ على وظائف بعينها. في هذا المقال، نتعمق في أبرز المهن المطلوبة في كوريا الشمالية، ونستعرض القطاعات التي تشكل العمود الفقري لهذا الاقتصاد الفريد.

قطاع التكنولوجيا في كوريا الشمالية

تولي الحكومة الكورية الشمالية اهتمامًا كبيرًا بتكنولوجيا المعلومات، ليس فقط من أجل التطوير المدني، ولكن أيضًا لأغراض عسكرية وأمنية. هناك مؤسسات تعليمية متخصصة تقوم بتدريب نخبة من الشباب على البرمجة، تطوير التطبيقات، الاختراق الإلكتروني، وتحليل البيانات الضخمة. ويُعرف عن البلاد أنها تقوم بتصدير خدمات تقنية سرية عن بُعد من خلال موظفين يعملون لصالح شركات أجنبية بواجهات مزيفة. هؤلاء المبرمجون يعملون من مراكز مغلقة تحت إشراف حكومي دقيق، ويتمتعون بامتيازات نسبية مقارنة بباقي السكان.

القطاع الصناعي والتصنيع في كوريا الشمالية

الصناعة الكورية الشمالية ترتكز على قطاعات استراتيجية مثل المعادن، المواد الكيماوية، تصنيع الأسلحة، وإنتاج الكهرباء. وتشير تقارير إلى وجود نقص في العمالة المؤهلة لتشغيل وصيانة الآلات، ما يدفع النظام إلى التركيز على تأهيل تقنيين وفنيين ميدانيين. وتعد المصانع التابعة للدولة بيئة العمل الرئيسية، حيث يُلزم المواطنون بأداء دورهم في تحقيق الإنتاج القومي. كذلك، فإن المناطق الصناعية الحدودية المشتركة – لا سيما مع الصين – تُعد من نقاط التشغيل المهمة التي تحتاج إلى مهارات تشغيل وتجميع.

الزراعة والأمن الغذائي في كوريا الشمالية

يواجه القطاع الزراعي في كوريا الشمالية تحديات حادة، منها نقص الموارد، والتقنيات البدائية، والمناخ القاسي. في المقابل، تعتمد الدولة على الزراعة الجماعية التي تتطلب يدًا عاملة ضخمة، إضافة إلى خبراء في إدارة الإنتاج الزراعي وتخزينه. وقد بدأت الدولة في السنوات الأخيرة بتشجيع استخدام البيوت البلاستيكية والزراعة الرأسية لتعويض نقص الأراضي الصالحة. وهناك اهتمام خاص بالمهندسين الزراعيين القادرين على تطوير تقنيات الري والتسميد، بهدف تقليل الاعتماد على الواردات.

القطاع الصحي في كوريا الشمالية

مع نظام صحي يعاني من نقص في الأدوية والمعدات الطبية، تبقى الحاجة إلى الكوادر الطبية قائمة بل وملحة. لا تقتصر المهن المطلوبة على الأطباء والممرضين، بل تشمل كذلك فنيي الأشعة، الصيادلة، ومشغلي الأجهزة الطبية. ومن اللافت أن العديد من الأطباء يتم إرسالهم إلى الخارج – خاصة إفريقيا – لجلب العملة الصعبة للنظام، ما يفاقم النقص الداخلي. بالمقابل، توفر الدولة منحًا دراسية للنخبة في كليات الطب، وتفرض التزامًا بالخدمة الإجبارية لفترات طويلة.

التعليم والتدريب في كوريا الشمالية

التعليم في كوريا الشمالية مؤدلج بشكل كبير، ويُعد أداة لترسيخ العقيدة الوطنية. ومع ذلك، هناك اهتمام خاص بتعليم الرياضيات والعلوم والتقنيات، خصوصًا في مدارس النخبة. يحتاج النظام دائمًا إلى معلمين متخصصين في العلوم الطبيعية واللغات الأجنبية – وخصوصًا اللغة الإنجليزية والروسية – لأغراض الترجمة والتواصل الخارجي. كما تبرز الحاجة إلى مدربين مهنيين في مجالات الكهرباء، الميكانيكا، والنجارة، لتأهيل الشباب للعمل في المصانع والمعامل.

القطاع السياحي في كوريا الشمالية

رغم الرقابة الصارمة، تسعى كوريا الشمالية إلى تعزيز دخلها من خلال السياحة المحدودة والمراقبة بدقة. ويتم توظيف مرشدين سياحيين يتقنون اللغات الأجنبية ويتبعون بروتوكولات أمنية صارمة عند التعامل مع الأجانب. هذه الوظائف تُمنح غالبًا لأشخاص من أسر موثوقة سياسيًا. كذلك، هناك حاجة للعاملين في قطاع الضيافة، مثل الطهاة، موظفي الاستقبال، ومديري الفنادق، لكن جميعهم يعملون ضمن ضوابط أيديولوجية لا يمكن تجاوزها.

الوظائف الحكومية والإدارية في كوريا الشمالية

تشكل الوظائف الحكومية قلب الدولة الكورية الشمالية. في غياب قطاع خاص فعلي، تعتبر المناصب الإدارية الحكومية من أهم المسارات المهنية، خاصة لمن ينتمون إلى الطبقة السياسية الموثوقة. تشمل هذه الوظائف مجالات مثل التخطيط المركزي، المحاسبة، الرقابة، إدارة التوزيع، وشؤون الدعاية الإعلامية. يتم اختيار المرشحين بعد فحص دقيق لخلفياتهم العائلية وولائهم للنظام، ويخضعون لتدريبات أيديولوجية مكثفة قبل استلام مناصبهم.

العمل في المشاريع الخارجية والتهريب

من الجوانب غير المعلنة في سوق العمل الكوري الشمالي هو التشغيل في مشاريع خارج الحدود، سواء بطريقة قانونية أو شبه سرية. ترسل الدولة آلاف العمال إلى الصين، روسيا، وبعض الدول الإفريقية للعمل في البناء، التعدين، والمطاعم، وتفرض عليهم تحويل الجزء الأكبر من أجورهم للحكومة. كما تنشط شبكات تهريب تعمل في التجارة غير الرسمية مع الصين، ويشارك فيها عمال محليون بدافع الحاجة، مما يجعل التهريب مهنة غير رسمية لكنها واسعة الانتشار.

الخاتمة

المشهد المهني في كوريا الشمالية معقد ومتشابك، يعكس طبيعة النظام السياسي والاقتصادي المغلق. فبين المهن التي تُفرض على المواطنين إجبارًا، وتلك التي تُمنح كمكافأة للولاء السياسي، تُرسم خريطة سوق العمل في البلاد. ورغم أن بعض التخصصات تشهد اهتمامًا عالميًا مثل البرمجة أو الطب، فإنها في كوريا الشمالية تخضع لمنطق الدولة الأمنية. لذلك، فإن فهم المهن المطلوبة هناك لا يقتصر على دراسة الحاجة الاقتصادية، بل يستوجب قراءة دقيقة لبنية النظام ووسائل ضبطه للمجتمع.