الحياة في كوريا الشمالية

كوريا الشمالية ليست فقط دولة مغلقة سياسيًا، بل هي أيضًا مجتمع يعيش في ظل واحدة من أكثر الأنظمة انغلاقًا وتقييدًا في العالم. الحياة هناك ليست مجرد يوميات روتينية، بل هي تجربة وجودية في عالم موازٍ تحكمه الأيديولوجيا والولاء المطلق للقيادة. في هذا المقال نغوص في تفاصيل الحياة اليومية في كوريا الشمالية، مستعرضين بدقة كيف يتشكل واقع السكان في ظل نظام صارم ومجتمع مراقب، معتمدين على أحدث المعلومات المتوفرة.

الرقابة والقيود الاجتماعية في كوريا الشمالية

الرقابة الاجتماعية في كوريا الشمالية ليست مجرد إجراءات إدارية بل نمط حياة يومي. فالحكومة تفرض قيودًا صارمة على الاتصال مع العالم الخارجي، ويُمنع المواطنون من استخدام الإنترنت العالمي، حيث يقتصر الاستخدام على شبكة داخلية خاضعة للرقابة تُعرف باسم “كوانغميونغ”. أي محاولة للتواصل مع الخارج، سواء عبر الإنترنت أو الهاتف أو حتى الرسائل، تُعد خيانة تستوجب العقاب. اللافت أن الأجهزة الذكية في البلاد لا تعمل كما هو معتاد، بل تُلتقط لقطات شاشة كل دقائق وتُرسل للجهات المختصة لمراقبة النشاطات.

حتى داخل المجتمع، يُشجَّع الناس على مراقبة بعضهم البعض من خلال نظام يُعرف باسم “نظام المراقبة الشعبية”، حيث يتم تعيين أفراد للإبلاغ عن أي سلوك يُعتبر مناهضًا للدولة. وتُعقد اجتماعات دورية داخل الأحياء السكنية تُلزم فيها العائلات بانتقاد الذات وتقييم سلوك بعضها البعض، ما يعزز ثقافة الخوف والانضباط. الأطفال يتعلمون منذ سن مبكرة أن الولاء للزعيم يفوق الولاء للأسرة، ما ينعكس على علاقاتهم الشخصية.

الوضع الاقتصادي في كوريا الشمالية

الاقتصاد الكوري الشمالي يواجه أزمات مستمرة بسبب العقوبات الدولية والعزلة الاقتصادية، إلا أن الدولة تحاول الحفاظ على مظهر من الصلابة. فبعد جائحة كورونا، أُغلقت الحدود بشكل شبه كامل مما أضعف حركة التجارة مع الصين، الشريك الاقتصادي الأهم. ورغم الافتقار للمواد الأساسية، تُصر وسائل الإعلام الرسمية على تصوير اقتصاد البلاد بأنه “صامد بفضل القيادة الحكيمة”.

من جهة أخرى، ظهرت بعض محاولات الإصلاح المحدودة عبر السماح بأسواق محلية شبه رسمية تُعرف بـ”جانغمدانغ”، حيث يمكن للأفراد بيع وشراء البضائع خارج القنوات الحكومية. لكنها تظل تحت الرقابة وتُغلق في أي لحظة بحجة الحفاظ على “النقاء الاشتراكي”. كما تسعى الدولة إلى زيادة التعاون مع روسيا، فتم افتتاح جسر جديد بين البلدين لزيادة الحركة التجارية والسياحية، رغم أن هذه الخطوات لا تُغطي العجز الكبير الناتج عن العزلة الدولية.

النظام التعليمي في كوريا الشمالية

النظام التعليمي في كوريا الشمالية ليس وسيلة للمعرفة بقدر ما هو أداة لغرس العقيدة. يبدأ الأطفال تعليمهم الإيديولوجي في سن مبكرة، حيث تُدرّس كتب تمجّد الزعيم الحالي كيم جونغ أون وسلفيه، وتُصوّرهم على أنهم منقذو البشرية. ولا يُسمح بأي محتوى تعليمي غير مُجاز رسميًا.

في السنوات الأخيرة، تم تمرير قانون لتطوير تعليم الموهوبين، لكن ذلك لم يُترجم إلى حرية علمية أو أكاديمية، بل إلى إنشاء مؤسسات تختص بتطوير علوم تُفيد النظام مثل الأمن السيبراني والدفاع. يُفرض على الطلاب دراسة مواد مثل “أخلاقيات كيم” و”دراسات ثورية”، بينما تُهمل المواد المرتبطة بالمعرفة العالمية أو التقنية الحديثة، مما يُضعف جاهزيتهم لسوق العمل العالمي.

الرعاية الصحية في كوريا الشمالية

تُعلن الحكومة الكورية الشمالية أنها تُقدم رعاية صحية مجانية، لكن الواقع مختلف تمامًا. فالكثير من المستشفيات تُعاني من نقص فادح في الأدوية، وغالبًا ما يُطلب من المرضى إحضار معداتهم الطبية الخاصة وحتى الدواء من خارج المؤسسات الصحية. وقد وثقت تقارير عدة حالات يُجري فيها الأطباء عمليات باستخدام أدوات غير معقمة، أو حتى بدون مخدر في المناطق الريفية.

من جهة أخرى، تبذل الدولة جهودًا لتحسين هذا الوضع من خلال إرسال أطباء للتدريب في روسيا، وبناء مستشفيات مركزية حديثة في العاصمة بيونغيانغ. لكن هذه الجهود لا تصل إلى الأغلبية الساحقة من السكان، الذين ما زالوا يعانون في صمت. المريض الذي لا يملك علاقات داخل النظام أو قدرات مالية كافية، غالبًا لا يجد سبيلًا للعلاج.

الحياة اليومية للمواطنين في كوريا الشمالية

تبدأ الحياة اليومية للمواطن الكوري الشمالي بمراعاة قواعد اللباس والتصرف. يمنع ارتداء الجينز، ويُشترط على النساء تصفيف الشعر وفق نماذج محددة مسبقًا من قبل الحكومة. كما تُفرض قيود على أسماء الأطفال، بحيث يجب أن تكون “ثورية” أو مستوحاة من رموز الدولة.

وسائل الترفيه تكاد تنعدم، حيث يُمنع الاستماع للموسيقى الكورية الجنوبية أو مشاهدة الأفلام الأجنبية. التلفزيون الرسمي يبث برامج تمجّد النظام فقط، والسينما المحلية تُنتج أفلامًا تمجيدية تُظهر الزعيم كمنقذ أسطوري. حتى في المدارس، يُدرّب الأطفال على تمثيليات سياسية تُظهر الولاء الكامل للدولة.

أما السفر الداخلي، فهو يتطلب إذنًا رسميًا، ويُراقب عن كثب. لا يُمكن للمواطنين الانتقال بحرية بين المدن، وتُفرض قيود صارمة على الحركة، ما يجعل الحياة اليومية مقيدة ومليئة بالخوف والحذر.

المكانة السياسية والاجتماعية للمرأة

رغم أن الدستور الكوري الشمالي يقر بالمساواة بين الجنسين، إلا أن الواقع يعكس صورة مختلفة. تُمارس النساء أدوارًا مزدوجة كعاملات ومُعيلات، وفي كثير من الأحيان يُتوقع منهن تولي المسؤوليات المنزلية بشكل كامل دون دعم يُذكر. وتُظهر الإحصاءات أن معظم العاملات في الأسواق غير الرسمية هن من النساء، بسبب قلة الفرص الرسمية لهن.

في الوقت نفسه، تُستخدم صورة المرأة في الإعلام الرسمي كرمز للنقاء الثوري، وغالبًا ما تُعرض وهي ترتدي الزي العسكري أو تمارس مهامًا بطولية، لكن ذلك لا يعكس واقعهن الحقيقي الذي يشوبه التهميش والتمييز.

الخاتمة

الحياة في كوريا الشمالية هي معادلة معقدة تجمع بين الولاء الإجباري، والرقابة المطلقة، والحرمان من الأساسيات. إنها دولة قائمة على العزلة وتقديس الزعامة، حيث تُدار الحياة اليومية بمنظومة تُمجد العقيدة وتُهمش الفرد. ورغم بعض التحركات الاقتصادية والطبية الشكلية، إلا أن جوهر النظام يظل قائمًا على السيطرة الشاملة، ولا تلوح في الأفق مؤشرات على تغيير جذري في المستقبل القريب.