تُعتبر تركيا دولة محورية في العالم الإسلامي، ليس فقط بسبب موقعها الجغرافي الذي يربط بين آسيا وأوروبا، بل لأنها تضم عددًا كبيرًا من المسلمين الذين يُشكّلون الغالبية العظمى من سكانها. من خلال تاريخ طويل يمتد من العهد العثماني حتى الجمهورية الحديثة، بقي الإسلام عنصرًا أساسيًا في هوية الدولة، حتى مع تطبيق النظام العلماني منذ أوائل القرن العشرين. ومع تحولات المجتمع التركي وتغيرات الأنظمة السياسية، بقيت مسألة عدد المسلمين وهويتهم الدينية من أبرز ملامح المشهد الديمغرافي في البلاد.
أقسام المقال
عدد المسلمين في تركيا
تشير البيانات الحديثة حتى عام 2025 إلى أن المسلمين في تركيا يشكلون ما بين 95% إلى 97% من السكان، ما يجعل الإسلام الديانة السائدة بفارق واسع عن بقية الديانات الأخرى. وبناءً على التقديرات الرسمية التي تشير إلى أن عدد سكان تركيا يبلغ حوالي 86 مليون نسمة، فإن عدد المسلمين يتراوح بين 81.7 مليون إلى 83.4 مليون نسمة تقريبًا. وعلى الرغم من التغيرات الاجتماعية والعولمة والتأثيرات الغربية، لا يزال غالبية الأتراك يُسجلون أنفسهم كمسلمين في الوثائق الرسمية، حتى وإن تباين مدى التزامهم الديني. وتُعد تركيا نموذجًا لبلد يتسم بتنوع في التدين؛ فبينما يلتزم البعض بالشعائر الإسلامية التقليدية، يتبع آخرون نمطًا علمانيًا أو روحيًا أقل التزامًا بالطقوس.
التوزيع الطائفي للمسلمين في تركيا
يُعد المذهب السني الحنفي هو الأكثر انتشارًا بين المسلمين في تركيا، ويمثل الأغلبية الساحقة. لكن لا يمكن إغفال الوجود الكبير للطائفة العلوية التي تشكل ما يُقدّر بـ 10% إلى 15% من المسلمين. العلويون يُعدّون طائفة دينية ذات طقوس وتقاليد خاصة تختلف عن الطقوس السنية، ولهم تاريخ طويل من الحضور الثقافي والاجتماعي في مناطق الأناضول. كما توجد أقلية شيعية اثني عشرية تُعرف بالجعفريين، ومعظمهم يعيشون في المدن الكبرى والمناطق الشرقية. هذه الطوائف تشكل تنوعًا دينيًا داخليًا غنيًا داخل الطيف الإسلامي التركي.
التوزيع الجغرافي للمسلمين في تركيا
يتركز المسلمون السنة بشكل كبير في مناطق وسط وغرب تركيا، خاصة في إسطنبول، أنقرة، بورصة، وكونيا. في المقابل، تنتشر الطائفة العلوية في مناطق شرقي الأناضول مثل تونجلي، سيواس، ومالاطيا، وهي مناطق لها خصوصيتها الثقافية والدينية. أما الشيعة الجعفريون فيتركزون بشكل ملحوظ في مناطق مثل إسطنبول وإغدير وكارس. ويعكس هذا التوزيع الطائفي والجغرافي مدى التداخل بين الانتماء الديني والجذور العرقية والتاريخية.
دور الإسلام في الحياة العامة والسياسية
رغم أن دستور تركيا يُقر بفصل الدين عن الدولة، إلا أن الإسلام لا يزال له حضور قوي في الحياة اليومية والسياسية. تُشرف رئاسة الشؤون الدينية التركية (ديانت) على إدارة المساجد وتعيين الأئمة وتنظيم خطب الجمعة، وتُعد هذه المؤسسة من أقوى المؤسسات الرسمية في البلاد. كما تستثمر الحكومة في المدارس الدينية (إمام وخطيب) التي تُخرج أجيالًا من الدعاة والخطباء. وفي السياق السياسي، يستخدم العديد من الأحزاب والمرشحين الرموز الدينية وخطاب الهوية الإسلامية لكسب تأييد شعبي، خصوصًا في الانتخابات البلدية والعامة.
المسلمون في تركيا والتعليم الديني
شهد التعليم الديني في تركيا تحولات جذرية، فبعد عقود من القيود في عهد الجمهورية المبكرة، عاد الاهتمام بالتعليم الإسلامي في العقود الأخيرة. تنتشر المدارس الدينية المعروفة باسم “إمام وخطيب” في معظم الولايات التركية، وهي تُدرّس المناهج العامة إلى جانب المواد الشرعية. كما أُنشئت كليات للشريعة والدراسات الإسلامية في العديد من الجامعات. ومع تطور الإعلام الرقمي، بات التعليم الديني متاحًا أيضًا عبر الإنترنت، مما أتاح الفرصة للعديد من الشباب التركي للاطلاع على معارف دينية متنوعة.
تأثير الهجرة والنزوح على المشهد الديني
منذ اندلاع الحرب السورية، استقبلت تركيا ملايين اللاجئين، معظمهم من المسلمين، مما أدى إلى زيادة عدد المسلمين في البلاد كمياً. ورغم أن هؤلاء اللاجئين ليسوا من المواطنين الأتراك، إلا أن وجودهم ساهم في تشكيل مشهد ديني وثقافي جديد في بعض المدن الكبرى مثل غازي عنتاب وأورفا وإسطنبول. كما أن الهجرة من الدول الأفريقية والآسيوية ذات الغالبية المسلمة أسهمت في تعزيز الحضور الإسلامي داخل المجتمع التركي المعولم.
التحديات والاتجاهات المستقبلية
من أبرز التحديات التي تواجه المجتمع التركي اليوم هي مسألة التوازن بين الدين والعلمانية. فمع تنامي النزعة العلمانية لدى بعض فئات الشباب، وانتشار أنماط الحياة الحديثة، يتراجع الالتزام الديني التقليدي لدى جزء من السكان. في المقابل، هناك أيضًا صعود في التيارات المحافظة والرغبة في العودة إلى القيم الدينية، خصوصًا في الأرياف والمجتمعات ذات الأغلبية المحافظة. يبقى المستقبل مفتوحًا أمام تركيا لصياغة نموذج فريد يجمع بين التقاليد الدينية والانفتاح الحداثي ضمن إطار من التعددية والتسامح.