تمثل أوكرانيا لوحة فسيفسائية دينية فريدة في أوروبا الشرقية، حيث تتشابك العقائد مع التاريخ والجغرافيا والسياسة. لم يكن الدين في أوكرانيا يومًا مجرد معتقد شخصي، بل شكّل على مرّ العصور ركيزة للهوية الثقافية والوطنية، وميدانًا للصراع والتأثير. ومع اشتداد التوترات الجيوسياسية في السنوات الأخيرة، خصوصًا بعد الغزو الروسي عام 2022، ازداد حضور الدين في النقاش العام، وبدأ يتخذ أبعادًا تتجاوز الروحاني إلى السياسي والاجتماعي.
أقسام المقال
- المشهد الديني في أوكرانيا: نظرة عامة
- الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية: بين الاستقلال والانقسام
- الكنيسة الكاثوليكية: حضور قوي في الغرب
- الأقليات الدينية: التنوع والتحديات
- حرية الدين: بين القوانين والتطبيق
- الدين والهوية الوطنية: تداخل معقد
- التحديات المستقبلية: نحو توازن ديني
- نسب وأعداد الأديان في أوكرانيا وفق آخر الإحصاءات
المشهد الديني في أوكرانيا: نظرة عامة
تشير الإحصاءات الحديثة إلى أن أكثر من 85% من سكان أوكرانيا يعتنقون الديانة المسيحية، بتنوع طوائفها، بينما تتوزع النسبة المتبقية على ديانات أخرى وأفراد غير متدينين. ويتجاوز عدد سكان البلاد حاليًا 36.7 مليون نسمة. ويُلاحظ أن الانتماء الديني غالبًا ما يكون مرتبطًا بالموقع الجغرافي والتكوين العرقي واللغة، فالغرب الأوكراني يميل أكثر إلى الكاثوليكية، بينما يهيمن الأرثوذكس على المناطق الوسطى والشرقية. في الوقت ذاته، فإن العاصمة كييف ومدن الجنوب تضم مزيجًا متعددًا من الانتماءات الدينية، يعكس تاريخًا طويلًا من التعايش والتنافس الديني.
الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية: بين الاستقلال والانقسام
تعد الكنيسة الأرثوذكسية العمود الفقري للمسيحية في أوكرانيا، إلا أن هذه الكنيسة نفسها منقسمة إلى جناحين رئيسيين: الأول هو الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية المستقلة (OCU)، التي تأسست رسميًا في 2019 بحصولها على صك التوموس من بطريركية القسطنطينية، والثاني هو الكنيسة الأرثوذكسية التابعة لبطريركية موسكو (UOC-MP)، والتي تعتبرها الدولة الأوكرانية ذات ارتباط سياسي بموسكو. وقد أدى هذا الانقسام إلى توتر داخلي ديني واسع، خاصة بعد بدء الحرب الروسية، حيث بات الانتماء الديني في بعض الحالات يُقرأ كمؤشر على الولاء السياسي.
الكنيسة الكاثوليكية: حضور قوي في الغرب
تحظى الكنيسة الكاثوليكية بمكانة بارزة، لا سيما في غرب أوكرانيا، حيث تتركز الطائفة الكاثوليكية ذات الطقس البيزنطي (المعروفة باسم الكنيسة الكاثوليكية الأوكرانية). ويبلغ عدد أتباع هذه الكنيسة نحو 2.9 مليون نسمة، وهم يمثلون عماد الحياة الدينية والثقافية في مدن مثل لفيف وتيرنوبل. كما توجد أقلية كاثوليكية لاتينية تقيم في بعض المدن الكبرى. ويُعرف الكاثوليك بنشاطهم الاجتماعي والمؤسساتي، خاصة في مجالات التعليم والرعاية الصحية، ما يعزز حضورهم المدني رغم قلة عددهم نسبيًا.
الأقليات الدينية: التنوع والتحديات
إلى جانب المسيحية، تحتضن أوكرانيا طيفًا من الديانات الأخرى، أبرزها الإسلام واليهودية. ويقدّر عدد المسلمين حاليًا بين 500,000 إلى 600,000 نسمة، معظمهم من تتار القرم، بالإضافة إلى جاليات شيشانية وأذربيجانية وأوزبكية. ومنذ ضم روسيا للقرم، نزح عشرات الآلاف من المسلمين إلى مناطق أوكرانية داخلية، مما أعاد رسم الخريطة السكانية الإسلامية. في المقابل، يقدر عدد اليهود بحوالي 37,000 نسمة، مع انتشار تاريخي في كييف وأوديسا ولفيف، رغم أن أوكرانيا كانت تضم أكثر من مليون يهودي قبل القرن العشرين. وتشمل الأقليات الأخرى البوذيين والبهائيين وبعض أتباع الديانات الشرقية الحديثة.
حرية الدين: بين القوانين والتطبيق
ينص الدستور الأوكراني على حرية الدين والمعتقد، ويكفل المساواة بين جميع الطوائف، إلا أن التطبيق العملي لا يخلو من إشكاليات. فالقانون الذي صدر في عام 2024، والذي يسمح بحظر المنظمات الدينية المرتبطة بدول تُمارس عدوانًا على أوكرانيا، أدى فعليًا إلى تقييد نشاط الكنيسة التابعة لبطريركية موسكو. كما شكت بعض الأقليات من ضعف الدعم الحكومي لمؤسساتها. في الوقت نفسه، توجد حرية ملحوظة في بناء المساجد والكنس والكنائس الجديدة، وتشهد البلاد تعاونًا بين السلطات والمنظمات الدينية في القضايا الاجتماعية.
الدين والهوية الوطنية: تداخل معقد
أصبح الدين في أوكرانيا أكثر من مجرد عقيدة، فهو أداة لتعزيز الهوية الوطنية في وجه العدوان الخارجي. تُبرز استطلاعات الرأي أن أغلب الأوكرانيين يتجهون نحو دعم الكنيسة الأرثوذكسية المستقلة، كتعبير عن السيادة الدينية والسياسية، فيما تتراجع شعبية الكنيسة المرتبطة بموسكو. كما لعبت المؤسسات الدينية دورًا في دعم الجيش والمجتمع المدني خلال الحرب، من خلال تنظيم حملات إغاثة ومعنوية. وهذا التفاعل أضفى على الدين بعدًا وطنيًا قويًا يعزز تماسك المجتمع في أوقات الشدة.
التحديات المستقبلية: نحو توازن ديني
تواجه أوكرانيا تحديًا مزدوجًا: الحفاظ على التعددية الدينية من جهة، وضمان الأمن القومي من جهة أخرى. يتطلب هذا الواقع صياغة سياسات دقيقة تتفادى التمييز أو الإقصاء، وتُشرك جميع الطوائف في مسار بناء الدولة. من الضروري أيضًا تعزيز الثقافة الدينية المعتدلة، ومحاربة التطرف والطائفية، خاصة في ظل محاولات خارجية لاستغلال الدين في بث الانقسام. ويُعوّل كثيرون على الجيل الجديد من القادة الدينيين، الذين يجمعون بين المعرفة والاعتدال والانفتاح.
نسب وأعداد الأديان في أوكرانيا وفق آخر الإحصاءات
بحسب التقديرات الديموغرافية في يونيو 2025، يتوزع المشهد الديني في أوكرانيا كما يلي:
- المسيحيون الأرثوذكس: حوالي 72%، أي نحو 26.4 مليون نسمة، منهم 19.8 مليون يتبعون الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية المستقلة.
- الكاثوليك (البيزنطيون واللاتينيون): حوالي 9%، أي 3.3 مليون نسمة.
- البروتستانت: حوالي 2%، أي 0.7 مليون نسمة.
- المسلمون: بين 500,000 و600,000 نسمة، أي نحو 1.5% من السكان.
- اليهود: حوالي 37,000 نسمة.
- ديانات أخرى (بوذية، بهائية، إلخ): أقل من 0.2%.
- غير المتدينين: حوالي 10%، أي نحو 3.7 مليون نسمة.
هذا التنوع الديني لا يعكس فقط تاريخ أوكرانيا، بل يضعها في موقع فريد كنموذج للتعددية الدينية في زمن الحرب والاضطرابات، ويمنحها فرصة لبناء دولة تحتضن كل أبنائها دون تمييز أو إقصاء.